«القيم
الإنسانية في فكر الإمام علي (عليه السلام)»، ليسلط الضوء على واحدة من أعمق زوايا شخصية
الإمام، وهي بعدها الإنساني والحقوقي.
الإمام علي (ع)… شخصية استثنائية
ومرجع إنساني عالمي
ينطلق
البحث من حقيقة أن الإمام علي (عليه السلام) يحظى بمكانة متميزة في القديم والحديث؛ إذ كتب عنه أدباء ومفكرون وعلماء من
المسلمين والمسيحيين، ومن العرب وغير العرب، في دلالة على العالمية الإنسانية
لشخصيته وتأثيره العابر للحدود والمذاهب.
وتبيّن
الباحثة أن شخصية الإمام (عليه السلام) اجتمعت فيها صفات نادرة:
- فصاحة وبلاغة وذكاء حاد،
- شجاعة لا تعرف التراجع،
- عدل صارم لا يحابي أحدًا،
- والتصاق تام برسول الله (صلى
الله عليه وآله)، أخذ عنه الأخلاق والروح قبل الأحكام والنصوص.
ويستعرض البحث نماذج من هذه العلاقة الخاصة بين النبي والإمام، مثل ليلة المبيت على فراش الرسول (ص)، حين نام علي (عليه السلام) في فراشه معرضًا نفسه لخطر القتل، ليُحبط مؤامرة قريش، في تجلٍّ مبكر لأعلى درجات التضحية من أجل الرسالة والإنسان.
منطلق البحث ومحاوره العلمية
قسّمت
الباحثة عملها إلى ثلاثة مباحث رئيسة، سبقتها مقدمة وختمتها بخاتمة ونتائج:
1.
المبحث الأول: الإمام علي (ع) ومكانته
تناولت فيه
ملامح شخصيته، وأهم محطات حياته، وكيف تحوّل إلى رمز إنساني وفكري في الوجدان
الإسلامي والعالمي.
2.
المبحث الثاني: شخصية الإمام وأثرها
في بناء الإنسان والمجتمع
رصدت فيه
رؤيته لبناء الفرد الصالح والمجتمع المتماسك، من خلال الكلمة والموقف والممارسة
العملية.
3.
المبحث الثالث: حقوق الإنسان عند
الإمام علي (ع)
وقسّمته
إلى محاور فرعية:
o
العدل والمساواة،
o
التعايش السلمي والتسامح،
o
حق الإنسان في الحياة وحرمتها،
o
حق الرعية على الحاكم،
o
حقوق الإنسان في الحروب.
الإمام علي (ع) وبناء الإنسان من
الداخل إلى الخارج
تؤكد
الباحثة أن الإمام علي (عليه السلام) لم يكن حاكمًا تقليديًا ولا شخصية
روحية منعزلة، بل مشروعًا متكاملًا لبناء الإنسان؛ يبدأ من إصلاح النفس،
ويمر بتقويم السلوك، وينتهي إلى إقامة مجتمعٍ عادلٍ ودولةٍ مسؤولة.
ومن
أبرز ما أكّدت عليه الدراسة في هذا الجانب:
- أن الإمام (عليه السلام) جمع بين
العلم والعمل؛ فلم يكن يكتفي بالوعظ، بل يطبّق ما يقول، ويجسّد القيم
في سلوكه اليومي، وهو القائل:
«من
نصب نفسه للناس إمامًا فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره».
- سعيه الدائم إلى تقويم
الإنسان من الداخل؛ بنزع الأنانية وحب الذات، وبناء علاقة قائمة على مبدأ:
«أحبب
لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها…»
وهي وصيته
الشهيرة لابنه الإمام الحسن (عليه السلام)، التي تجعل التعاطف ووضع النفس مكان
الآخر أساسًا لأي سلوك إنساني قويم.
- ربطه بين صلاح المجتمع وصلاح
أفراده؛ فالإمام يرى أن المجتمع لا يستقيم ما لم تُصلَح النفوس، وما لم
تُبنَ علاقة قائمة على العدل، والتعاون، واحترام الحقوق المتبادلة.
العدل والمساواة… حجر الأساس في فكر
الإمام الحقوقي
يضع
البحث مبدأ العدالة والمساواة في صدارة القيم الإنسانية عند الإمام علي
(عليه السلام)، باعتباره أساس الحقوق كافة.
وتعرض
الباحثة نماذج عملية من سيرته في الحكم، من بينها:
- المساواة في العطاء من بيت المال، ورفضه منح امتيازات لفئة دون
أخرى، حتى لمن لهم سوابق جهادية؛ إذ كان يرى أن ثواب السبق في الإسلام
والجهاد عند الله في الآخرة، لا في امتيازات دنيوية تخلّ بالعدالة.
- استرداد أموال الأمة المنهوبة؛ إذ أعلن منذ اليوم الأول
لخلافته أنه سيرد كل قطيعة أو مال أُخذ من بيت المال بغير حق، قائلاً:
«والله
لو وجدته قد تُزوِّج به النساء ومُلِك به الإماء لرددته؛ فإن في العدل سعة، ومن
ضاق عنه الحق فالجور عليه أضيق».
- رفضه الشديد لأي محاولة لاستغلال
المال العام لشراء الذمم أو تثبيت السلطة، حتى حين نصحه بعضهم بذلك،
فكان جوابه الحاسم:
«أتأمرونّي
أن أطلب النصر بالجور فيمن وُلّيت عليه… ولو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما
المال مال الله؟».
هذه
المواقف، كما توضح الباحثة، جعلت من الإمام علي (عليه السلام) نموذجًا نادرًا للحاكم الذي يقدّم
العدالة على مصلحته وسلامته السياسية.
التعايش السلمي والتسامح… الإنسان أخٌ
في الدين أو نظيرٌ في الخلق
في
محور التعايش السلمي والتسامح، يُبرز البحث رؤية الإمام علي (عليه السلام)
لمجتمع متعدّد الأديان والانتماءات، تحفظ فيه الحقوق وتصان الكرامات.
وتستند
الباحثة إلى جملة من النصوص والمواقف، أبرزها:
- تأكيده على مبدأ عدم الإكراه
في الدين، انسجامًا مع قوله تعالى:
﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ…﴾،
حيث تُكفل
حرية العقيدة للمسلمين وغير المسلمين معًا.
- عهده الشهير إلى مالك الأشتر،
حين ولاّه مصر، وفيه يقول:
«وأشعر
قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعًا ضاريًا…
فإنهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق».
وهو نصّ
ترى فيه الباحثة وثيقة إنسانية عالمية تسبق كثيرًا من المواثيق الحديثة في
تأكيدها على وحدة الأصل الإنساني وعمومية الحقوق.
- أمره ولاته بالتسامح مع أتباع
الديانات الأخرى، والتعامل معهم بالرحمة والعدالة، بوصفهم شركاء في الوطن
والإنسانية، لا غرباء عن نسيج المجتمع.
حق الحياة والأمن… حرمة الدم وكرامة
الإنسان
يخصّص
البحث مساحة واسعة لـ حق الإنسان في الحياة وحرمتها عند الإمام علي (عليه
السلام)، منطلقًا من أن
الإنسان «أفضل ما وجد على وجه الأرض» وأن الاعتداء على حياته اعتداء على إرادة
الله وجريمة بحق الإنسانية جمعاء.
وتشير
الباحثة إلى أن الإمام:
- عدّ قتل النفس من أكبر
الكبائر، ووقف ضد كل أشكال التهديد والتعذيب والإهانة، إقرارًا لحق
المجتمع في الأمن الشخصي والجماعي.
- ذكّر بمآسي مجتمع الجاهلية حيث
كانت الدماء تُسفك بلا ضابط، ليُبرز دور الرسالة المحمدية في نقل المجتمع من
فوضى القتل إلى منظومة تحفظ الدماء.
- لم يفرق بين دم المسلم وغير
المسلم؛ إذ يقول:
«دم
المسلم كدم الذمي حرام»،
في تكريس
واضح لفكرة أن الحق في الحياة لا يرتبط بالدين أو الانتماء، بل بالإنسان ذاته.
- شدّد في عهده لمالك الأشتر على
التحذير من سفك الدم الحرام، مؤكدًا أنه «لا عذر عند الله ولا عند الإمام في
قتل العمد»، وأن الدماء لا تُستباح بحجة السياسة أو الضرورات.
حق الرعية على الحاكم… سلطة مقيّدة
بالشرع والعدل
يتوقف
البحث طويلًا عند حقوق الناس على الحاكم في فكر الإمام علي (عليه السلام)،
فيكشف أن الإمام قدّم نموذجًا متقدمًا لدولة المسؤولية والرقابة.
ومن
أبرز ما ركّزت عليه الدراسة:
- أن الحاكم، في نظر الإمام علي (ع)، مقيّد
بأحكام الشريعة والعدالة، لا يملك أن يتصرف بالمال العام أو بالسلطة وفق
المزاج الشخصي.
- إصراره على المساواة في العطاء
وعدم تفضيل أحد، عربيًا كان أم أعجميًا، شريفًا أم بسيطًا، ما أغضب أصحاب
الامتيازات وأصحاب المصالح ودفع بعضهم إلى التآمر ضده.
- رسائله إلى ولاته، خاصة رسالته
إلى مالك الأشتر، التي اعتبرتها الباحثة من أهم الوثائق السياسية
والإنسانية؛ إذ تُحَمِّل الحاكم مسؤولية:
- رعاية الفقراء والطبقات
المستضعفة،
- تخصيص جزء من بيت المال
والموارد لهم،
- التواضع لهم وعدم التكبر أو
الانشغال عن سماع شكواهم.
- تأكيده على حق الأمة في مراقبة
الحاكم ومساءلته بل ومعارضته إذا تحوّل إلى الظلم والاستبداد، استنادًا
إلى مبدأ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، حتى لو وصلت الأمور إلى الثورة
على الحاكم الظالم.
وتخلص
الباحثة إلى أن رؤية الإمام علي (عليه السلام) لحقوق الإنسان تضمّنت آليات لضبط
الحاكم ومنعه من الانحراف، وهو ما يشكّل أساسًا لأي حديث معاصر عن دولة
القانون والمؤسسات.
حقوق الإنسان في الحروب… أخلاق الفارس
النبيل
في
المحور الأخير، يعرض البحث منظور الإمام علي (عليه السلام) لحقوق الإنسان في
زمن الحروب، ليثبت أن الحروب في فكره ليست مساحة مفتوحة للفوضى، بل محكومة
بضوابط أخلاقية صارمة.
ومن
النماذج التي استعرضتها الباحثة:
- محاولته الدائمة تقديم السلم
على الحرب، وفتح باب الحوار قبل اللجوء إلى السلاح، وعدم إجبار أحد على
القتال معه.
- إلزامه جنوده بعدم قتل الفارّ
ولا المُعْوَر (المُنْهَك) ولا الإجهاز على الجريح، مستشهدًا بقوله (ع):
«فإذا
كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبرًا، ولا تصيبوا مُعْوَرًا، ولا تُجْهِزوا
على جريح».
- نهيه عن سبّ الخصوم وشتمهم، كما
في موقفه من جنود الشام في صفين، حين قال لأصحابه:
«إني
أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكن لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في
القول وأبلغ في العذر… وقولوا: اللهم احقن دماءنا ودماءهم…».
- قتاله للخوارج ليس لاختلافهم
الفكري فحسب، بل لما شكّلوه من تهديد لأمن المجتمع وإباحة لدماء الأبرياء،
كما في حادثة قتل الصحابي ابن خباب وزوجته بطريقة وحشية، والتي كانت الشرارة
لمعركة النهروان.
وتخلص
الدراسة إلى أن الإمام علي (عليه السلام) قدّم نموذجًا مبكرًا لـ قانون إنساني
للحرب، يقيّد القتال بأخلاق الدين والإنسان، ويحفظ كرامة حتى العدو بعد سقوطه.
دلالات معاصرة… الحاجة إلى عدالة
الإمام ورحمته اليوم
في
الخاتمة، تؤكد الباحثة أن القيم الإنسانية في فكر الإمام علي (عليه السلام) تمثل رصيدًا حضاريًا يمكن أن يقدّم
حلولًا عملية لأزمات حقوق الإنسان في عالم اليوم، حيث تتفاقم الحروب،
وتُنتهك الكرامات، وتُصادر الحقوق تحت عناوين عدة.
وتشير
إلى أن رؤية الإمام في:
- حرمة الدم،
- العدالة والمساواة،
- التعايش والتسامح،
- ضبط السلطة ومحاسبة الحاكم،
- حماية الضعفاء والمهمشين،
كلها
تمثل منظومة متكاملة يمكن الإفادة منها في البناء الحقوقي والتربوي
والتشريعي للمجتمعات المعاصرة، إذا ما أحسِن قراءتها وتفعيلها.
يأتي
هذا البحث ضمن سلسلة الأبحاث التي استعرضها المؤتمر العلمي الرابع لإحياء تراث
أمير المؤمنين (عليه السلام)، ليؤكد أن تراث
الإمام ليس صفحات من التاريخ فحسب، بل مشروع إنساني متجدد قادر على إلهام
تجارب العدالة والدولة الرشيدة اليوم.
وبوصفنا
في مركز المرايا للدراسات والإعلام نسعى إلى وصل الجامعات بالواقع، فإن نشر
هذا البحث ونتائجه عبر الموقع الرسمي للمركز هو خطوة في اتجاه تعميم ثقافة
الإمام علي (عليه السلام) الحقوقية والإنسانية، وجعلها جزءًا من الوعي العام،
ومن خطاب الباحثين والمربين وصناع القرار في عراقٍ يتطلع إلى دولة العدل والكرامة
والإنسان.


