شارك بحثٌ أكاديمي متميز في أعمال المؤتمر
العلمي الرابع لإحياء تراث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي أقامه مركز
المرايا للدراسات والإعلام في النجف الأشرف، برعايةٍ كريمةٍ من العتبة
العباسية المقدسة، وبالتعاون مع جمعية العميد العلمية وجامعة الكوفة
ومسجد الكوفة المعظّم واتحاد الأدباء والكتّاب في النجف الأشرف.
البحث الذي قدّمته م.د خديجة حسن
علي القصير من جامعة الكوفة/ كلية الآداب حمل عنوان:
"التربية
الفعّالة في فكر علي بن أبي طالب: استراتيجيات وأساليب"
وتناول
برؤية علمية منهجية الأبعاد التربوية العميقة في فكر الإمام علي (عليه السلام)،
بوصفه نموذجاً متكاملاً للمربّي القادر على الجمع بين الحكمة النظرية والتطبيق
العملي.
رؤية
تربوية متكاملة من نهج البلاغة
انطلقت الباحثة من تعريف التربية
الفعّالة بوصفها عملية متكاملة لبناء الإنسان في أبعاده العقلية والأخلاقية
والروحية، مؤكدة أن فكر الإمام علي (عليه السلام) كما تجلّى في نهج البلاغة
يمثّل منظومة تربوية متوازنة تستند إلى العلم، والقدوة، والحوار، والتزكية
الروحية. وتبرز أهمية الدراسة – كما تشير الباحثة – في كونها تستنطق تراث الإمام
علي (عليه السلام) للإجابة عن تحديات تربوية معاصرة؛ مثل تراجع القيم الأخلاقية
وغياب القدوة الصالحة في مؤسسات التربية الحديثة.
وتتمحور مشكلة البحث حول سؤال رئيس:
ما هي
الاستراتيجيات والأساليب التربوية الفعّالة التي يمكن استخراجها من فكر الإمام علي
بن أبي طالب (عليه السلام)، وكيف يمكن توظيفها في الواقع التربوي المعاصر؟
واعتمدت الباحثة المنهج الوصفي
التحليلي من خلال قراءة منتقاة لنصوص نهج البلاغة وعدد من الدراسات
المتخصصة في الفكر التربوي للإمام علي (عليه السلام)، بهدف استخلاص القواعد
والأساليب القابلة للتطبيق في بيئات التعليم اليوم.
المبحث
الأول: الأسس التربوية في فكر الإمام علي (عليه السلام)
قسّمت الباحثة دراستها إلى مبحثين
رئيسين؛ جاء أولهما بعنوان:
"الأسس
التربوية في فكر علي بن أبي طالب"، وتضمّن مجموعة من
المحاور التي تبرز ملامح "المربّي النموذج" في شخصية الإمام (عليه
السلام).
1.
التربية
بالقدوة والحوار والتدرّج
بيّن البحث أن الإمام علي (عليه
السلام) قدّم نموذجاً عملياً للمربّي الذي يعلّم الناس بأخلاقه قبل لسانه، مؤكداً
– من خلال أقواله وسيرته – أن من تصدّى لتربية الناس عليه أن يبدأ بتربية نفسه
أولاً، ليكون قوله منسجماً مع فعله.
كما توقّفت الباحثة عند أسلوب الحوار
العقلاني الذي اعتمده الإمام (عليه السلام) في توجيه الأفراد والمجتمعات، حيث
يُبنى الإقناع على احترام عقل المتلقي، وإتاحة المجال له للتفكير والنقاش، بعيداً
عن القسر والإملاء.
أما التدرّج في التربية، فقد
عدّته الدراسة إحدى الركائز الأساسية في فكر الإمام علي (عليه السلام)، إذ دعا إلى
عدم تحميل الناس ما لا يطيقون، ومراعاة أعمارهم وطاقاتهم واستعداداتهم الذهنية،
بما ينسجم مع السنن التربوية والإنسانية.
2.
التعزيز
الإيجابي والتوجيه غير المباشر
أكّد البحث أن الإمام علي (عليه
السلام) استخدم التعزيز الإيجابي وتشجيع السلوك الحسن عبر الثناء والكلمة
الطيبة، بوصفه أسلوباً مؤثراً في تثبيت القيم ورفع دافعية المتعلّمين نحو التميّز
في الأخلاق والعمل.
كما ركّزت الدراسة على التوجيه غير
المباشر عبر الأمثال والقصص والصور البلاغية، التي تلامس العقل والقلب معاً؛
فتقرّب المعنى، وتُشعِر المتلقي بأنه شريك في الاكتشاف، لا مجرّد متلقّ للأوامر.
3.
التربية
الذاتية والبعد الروحي
توقّفت الباحثة مطولاً عند مفهوم التربية
الذاتية في فكر الإمام علي (عليه السلام)، حيث يُكلّف الإنسان بمراقبة نفسه،
ومحاسبتها، والاستفادة من التجربة والخطأ، كما شدّد الإمام على مركزية العلم في
ترقية الفرد والمجتمع، وأن العلم يحرس صاحبه ويصون كرامته.
وفي جانب التربية الروحية، رأت
الباحثة أن الإمام علي (عليه السلام) جعل التقوى والوعي بحضور الله في حياة
الإنسان بمثابة "الدواء" لأمراض القلوب، وأن تهذيب النفس روحياً هو
الشرط الأساس لنجاح أي عملية تربوية، لأن السلوك الخارجي انعكاسٌ لحالة الإنسان
الباطنية.
المبحث
الثاني: تطبيقات معاصرة لفكر الإمام علي (عليه السلام) في التربية الحديثة
في المبحث الثاني، ينتقل البحث من
التنظير إلى التطبيق، محاولاً الإجابة عن سؤال: كيف يمكن تحويل هذه المبادئ
التربوية إلى برامج عملية في المدارس والجامعات ومؤسسات التنشئة المعاصرة؟
1.
إدماج
نهج البلاغة في المناهج التربوية
يقترح البحث إدخال نصوص مختارة من نهج
البلاغة في المقررات الدراسية، ولا سيما في دروس التربية الإسلامية واللغة
العربية والدراسات الاجتماعية، على أن تُراعى المرحلة العمرية للطلبة، وتُقدَّم
النصوص بلغة ميسّرة مع أنشطة تطبيقية؛ مثل:
- مسابقات في تحليل الحكم والأقوال
التربوية للإمام علي (عليه السلام).
- توظيف الوسائط الرقمية والتقنيات
الحديثة لعرض هذه النصوص بشكل تفاعلي وجاذب.
2.
ترسيخ
منظومة الأخلاق والعدل والحكمة
ركّزت الباحثة على ثلاث قيم كبرى في
فكر الإمام علي (عليه السلام) يمكن أن تشكّل محوراً لأي مشروع تربوي معاصر:
- الأخلاق: حيث تُقاس قيمة الإنسان بما
يحسنه من أفعال، لا بما يملكه من مال أو وجاهة، مما يستدعي برامج مدرسية
وجامعية تعزّز الصدق والأمانة والاحترام وخدمة المجتمع من خلال الأعمال
التطوعية.
- العدل: بوصفه أساس صلاح المجتمع
واستقامة العملية التربوية، بدءاً من عدالة المعلم في تعامله مع الطلبة،
مروراً بتكافؤ الفرص التعليمية، وانتهاءً بالسياسات التربوية العامة.
- الحكمة: باعتبارها "ضالة
المؤمن"، حيث تدعو رؤية الإمام (عليه السلام) إلى تنمية التفكير النقدي،
وتعليم الطلبة مهارات حلّ المشكلات واتخاذ القرار الرشيد في حياتهم اليومية.
كما أشار البحث إلى إمكانية تنظيم ورش
عمل وزيارات ميدانية لمؤسسات قضائية وخيرية، بهدف ربط مفاهيم العدل والأخلاق في
فكر الإمام علي (عليه السلام) بواقع المجتمع المعاصر بصورة محسوسة وقابلة
للاستيعاب من قبل الناشئة.
نتائج
وتوصيات
في خاتمة البحث، أكدت م.د خديجة
القصير أن فكر الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقدّم رؤية تربوية شاملة
ومتوازنة وعملية في آن واحد؛ إذ تجمع هذه الرؤية بين تنمية العقل، وتهذيب
الروح، وبناء منظومة أخلاقية راسخة، مع الإيمان العميق بقدرة الفرد على تطوير نفسه
عبر التعلّم الذاتي والمراجعة المستمرة للسلوك.
وخلصت الدراسة إلى أن استلهام هذه
الرؤية في صياغة المناهج والبرامج التربوية الحديثة يمكن أن يسهم في:
- إعداد جيل واعٍ يمتلك أدوات
المعرفة وروح المسؤولية.
- تعزيز المناعة الأخلاقية في
مواجهة التحديات الثقافية والفكرية المعاصرة.
- إحياء التراث العلوي بوصفه
رصيداً حضارياً حياً، لا مجرد مادة تاريخية جامدة.
كما دعت الباحثة إلى مزيد من الدراسات
المتخصصة التي تربط بين تراث الإمام علي (عليه السلام) وحقول علمية أخرى؛ كعلم
النفس التربوي، وفلسفة التربية، وبناء المناهج، بما يفتح آفاقاً أوسع لاستثمار هذا
التراث في خدمة الإنسان والمجتمع.
يجسد هذا البحث واحداً من ثمار الجهود
التي يبذلها مركز المرايا للدراسات والإعلام في النجف الأشرف لإحياء تراث
أمير المؤمنين (عليه السلام) علمياً وفكرياً، من خلال تنظيم المؤتمرات والندوات
التي تجمع بين الباحثين والجامعات والعتبات المقدسة والاتحادات الثقافية.
وبمشاركة هذا النوع من الدراسات
التربوية المتخصصة، يرسّخ المؤتمر العلمي الرابع لإحياء تراث أمير المؤمنين (عليه
السلام) موقعه كمنصّة علمية فاعلة تعيد قراءة التراث العلوي بوصفه مشروعاً متجدداً
لبناء الإنسان وإصلاح المجتمع، وتربط بين أصالة النصّ وضرورات الواقع التربوي
المعاصر.