شهدت
أعمال المؤتمر العلمي الرابع لإحياء تراث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه
السلام)، الذي أقامه مركز
المرايا للدراسات والإعلام في النجف الأشرف، برعاية كريمة من العتبة
العباسية المقدسة، وبالتعاون مع جمعية العميد العلمية وجامعة الكوفة
ومسجد الكوفة المعظَّم واتحاد الأدباء والكتّاب في النجف الأشرف،
مشاركة بحثٍ علمي متميّز حمل عنوان:
«التوازن التربوي بين العقل والقلب في
تراث الإمام علي (ع)»
قدّمه
الباحث عبد الغني إبراهيم جابر من الجمهورية العربية السورية.
البحث
سعى إلى تقديم قراءة تربوية عميقة لتراث الإمام علي (عليه السلام)، تستكشف العلاقة
التكاملية بين العقل والقلب في بناء الإنسان المتوازن، وتجيب عن سؤالٍ محوري: هل
يمكن توظيف تراث الإمام علي (ع) لتحقيق توازن تربوي بين العقل والقلب لمواجهة
تحدّيات التربية المعاصرة؟
بنية البحث ومنهجيته
تكوَّن
البحث من مقدمة وثلاثة مباحث رئيسة وخاتمة تضمّنت النتائج والتوصيات.
في
المقدمة، عرض الباحث أهمية الموضوع معرفيًا وعمليًا وحضاريًا؛ من خلال كشف
الرؤية التربوية الشاملة في تراث الإمام علي (ع)، وتقديم حلول تربوية لأزمات الواقع المعاصر،
وإحياء النموذج الإسلامي في مواجهة النظريات المادية التي تفصل بين العقل والقيم
الروحية. كما حدّد إشكالية البحث ومنهجيته التي اعتمدت على المنهج التحليلي
لأقوال الإمام في نهج البلاغة، والمنهج المقارن مع المدارس الفكرية الغربية،
إضافة إلى دراسة تطبيقات تربوية في مجتمعات إسلامية معاصرة.
المبحث الأول: العقل والقلب والتوازن
بينهما في تراث الإمام علي (ع)
في
المبحث الأول، تناول الباحث مفهوم العقل والقلب في تراث الإمام علي (ع)،
والأساليب التربوية المنطلِقة من هذا التوازن.
- العقل في فكر الإمام علي (ع)
قدّمه الإمام بوصفه آلة التمييز بين الحق والباطل، وأداة الإدراك العميق للحكمة والفضيلة، لا مجرد قدرة ذهنية نظرية. فالعقل عند الإمام «ميراث الأنبياء» و«إمام الأفكار»، به تُصان القيم وتُضبط السلوكيات، وهو الطريق إلى الفضيلة وتهذيب النفس. - القلب مركز الوعي الروحي
والوجداني
أمّا القلب، فيُعرَض في نهج الإمام علي (ع) باعتباره وعاء الإيمان والتقوى، ومركز العاطفة الرحيمة والضمير الحي، فهو ليس عضواً بيولوجياً فحسب، بل مستودع الحكمة والبصيرة. ومن خلاله تتجلى مشاعر الرحمة والمحبة والعدل، التي تشكّل أساس التربية الأخلاقية. - التوازن التربوي بين العقل
والقلب
يؤكد البحث أن الإمام علي (ع) قدّم نموذجاً متكاملاً للتربية يقوم على دمج العقلانية بالحس الإنساني؛ فالعقل يوجّه السلوك وفق معيار الحق، والقلب يمنحه البعد الأخلاقي والإنساني. ومن أبرز ما يورده الباحث: أن من يغلب عقله شهوته يرتقي فوق مرتبة الملائكة، بينما من تغلب شهوته عقله ينحدر إلى ما دون مرتبة الحيوان؛ في إشارة واضحة إلى مركزية هذا التوازن في بناء الشخصية السويّة.
كما
استعرض البحث تطبيقات تربوية مستنبطة من تراث الإمام علي (ع)، منها: التربية
بالقدوة، التوجيه بالموعظة، إشراك المتربي في التأمل والتفكر، وتعزيز العاطفة
الإيجابية (الرحمة، المحبة، التعاطف) في إطار عقلاني منضبط.
المبحث الثاني: تحديات التربية
المعاصرة ودور الأسرة والمجتمع
خصص
الباحث المبحث الثاني لقراءة التحديات التي تواجه التربية المعاصرة، وربطها
بفقدان التوازن بين العقل والقلب، ثم بيان دور الأسرة والمجتمع في استعادة هذا
التوازن.
- تغليب الجانب المعرفي وإهمال
القيم
يشير البحث إلى أن النُّظم التعليمية في كثير من دول العالم تركّز على تحصيل المعلومات والمهارات العقلية – خاصة في ظل ثورة التكنولوجيا والإعلام – على حساب التربية القيمية والعاطفية والروحية، ما ينتج أفرادًا متفوّقين أكاديميًا لكنهم ضعفاء في التعاطف والمسؤولية الاجتماعية والانتماء. - تأثير الإعلام ووسائل التواصل
يلفت الباحث إلى التأثير السلبي لوسائل التواصل الاجتماعي وبعض المضامين الإعلامية التي تروّج لقيم استهلاكية ومادية وسطحية، تزيد الهوة بين ما يتلقّاه الطالب في البيت أو المدرسة، وما يعيشه في الفضاء الرقمي المفتوح. - دور الأسرة
يبرز البحث الأسرة بوصفها المحضن التربوي الأول، حيث تتكامل التربية العقلية (تنمية التفكير والحوار) مع التربية العاطفية (بثّ الرحمة، والاحتواء، والإصغاء). ويستشهد الكاتب بنماذج من سيرة الإمام علي (ع) في تعامله مع أبنائه ووصاياه لهم، حيث يجمع بين النصح العقلي اللطيف وتربية المشاعر والضمائر. - دور المجتمع والمؤسسات التعليمية
يؤكد البحث أن تحقيق التوازن التربوي مسؤولية مشتركة بين الأسرة، والمدرسة، والجامعة، والمؤسسات الدينية والثقافية. فالمؤسسات التعليمية مدعوّة لإدماج القيم الروحية والأخلاقية ضمن المناهج، لا أن تبقى حبيسة الحصص الوعظية المنفصلة عن الحياة اليومية، مع تفعيل الأنشطة اللاصفّية التي تنمّي روح التعاون والعمل الجماعي وخدمة المجتمع.
المبحث الثالث: تطبيقات عملية
وتأثيرات ثقافية ودينية ومقارنات فكرية
في
المبحث الثالث، انتقل الباحث من التأصيل النظري إلى النماذج التطبيقية،
ثم إلى تحليل التأثيرات الثقافية والدينية للفكرة، وأخيراً إلى مقارنتها مع مدارس
فكرية أخرى.
- نماذج تطبيقية في الواقع التربوي
عرضت الدراسة نماذج لكيفية إدخال مفهوم التوازن بين العقل والقلب في البيئة المدرسية والجامعية، عبر: - مناهج تجمع بين تحليل النصوص
الدينية والفكرية من جهة، وتنمية الحسّ الإنساني والوجداني من جهة أخرى.
- أنشطة تطوعية وخدمية تُدرَّب
فيها الأجيال على العطاء، وتُترجم فيها المعرفة إلى ممارسة.
- التأثيرات الثقافية والدينية
يبيّن البحث أن تراث الإمام علي (ع) أسهم في تكوين هوية ثقافية إسلامية تعطي للعقل مكانته في فهم النصوص والواقع، وتُبقي للقلب دوره في ترسيخ الإيمان والخلق، وهو ما انعكس على مسار الفكر الإسلامي عبر القرون، خاصة في الحقول المرتبطة بالحكمة والأخلاق والتصوف. - المقارنة مع الفكر الإسلامي
والغربي
يقارن الباحث بين رؤية الإمام علي (ع) وبعض المدارس الإسلامية (المعتزلة، الأشاعرة وغيرها) في تناول العلاقة بين العقل والنص، ثم ينتقل إلى الفكر الغربي الذي غلبت عليه في مراحل عديدة النزعة العقلانية الصرفة أو النزعة الوجودية/العاطفية، ليخلص إلى أن الرؤية العلوية تقدّم نموذجًا متوازنًا قادرًا على تغذية العقل وإرواء الروح في آن واحد.
نتائج البحث: نموذج علوي لتربية
الإنسان المتكامل
خلص
الباحث عبد الغني إبراهيم جابر في خاتمة دراسته إلى أن تراث الإمام علي (عليه
السلام) يقدّم مشروعًا تربويًا متكاملاً، يجعل من التوازن بين العقل والقلب
شرطًا لبناء الإنسان الحرّ المسؤول، القادر على فهم العالم بعقله، والتفاعل معه
بقلبٍ حيٍّ متّصل بالقيم الإيمانية والأخلاقية.
ومن
أبرز النتائج التي توصّل إليها البحث:
1.
العقل والقلب كركيزتين لا تنفصلان في التربية الإسلامية؛ فالعقل أداة
للمعرفة والتمييز، والقلب منبع للنية والإخلاص والرحمة.
2.
فقدان هذا التوازن في النظم التعليمية الحديثة يُسهم في
أزمات أخلاقية ونفسية واجتماعية، تظهر في ضعف الانتماء، وبرود المشاعر، وارتفاع
معدلات الاضطرابات النفسية.
3.
تراث الإمام علي (ع) يوفّر قاعدة عملية لإعادة صياغة
المناهج والبرامج التربوية بحيث تُنَمّي التفكير النقدي إلى جانب القيم الروحية
والوجدانية.
4.
ضرورة الشراكة بين الأسرة والمدرسة
والمؤسسات الدينية والثقافية لإرساء نموذج تربية متوازنة، يستلهم سيرة الإمام
علي (ع) في العدل، والرحمة، والحكمة.
توصيات تربوية تستلهم تراث الإمام علي
(ع)
قدّم
البحث حزمة من التوصيات، من أهمها:
- إدماج نصوص مختارة من نهج
البلاغة وأقوال الإمام علي (ع) المتعلقة بالعقل والقلب والأخلاق في
المناهج التعليمية بصورة مبسطة وتطبيقية.
- إعداد برامج تدريبية للمعلمين
والمربّين لتعزيز مهارات التربية العقلية والعاطفية معًا، وتمكينهم من
أن يكونوا قدوة تجسّد هذا التوازن في المدرسة والمجتمع.
- دعم المبادرات المجتمعية التي
تجمع بين التأمل الفكري والعمل التطوعي، بما يجعل من الشباب نماذج
تعكس التوازن بين المعرفة والعمل، وبين العقل والقلب.
بهذا
البحث، يضيف الباحث عبد الغني إبراهيم جابر لبنة جديدة في مشروع إحياء تراث
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، الذي يتبنّاه مركز
المرايا للدراسات والإعلام من خلال مؤتمراته العلمية وشراكاته مع العتبات
والجامعات والاتحادات الثقافية.
فالعودة
إلى تراث الإمام علي (ع) ليست عودةً إلى الماضي فحسب، بل هي محاولة واعية لصياغة مستقبل
تربوي أكثر توازنًا وإنسانية، يقدّم للعالم نموذجاً إسلامياً ينسجم فيه نور
العقل مع صفاء القلب في بناء الفرد والمجتمع.
