بحثٌ يربط بين مدرسة الإمام علي (ع) والتنمية المستدامة للأسرة والمجتمع ضمن أعمال المؤتمر العلمي الرابع لإحياء تراث أمير المؤمنين (ع)

 


 

شهد المؤتمر العلمي الرابع لإحياء تراث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي أقامه مركز المرايا للدراسات والإعلام في النجف الأشرف، برعاية كريمة من العتبة العباسية المقدسة، وبالتعاون مع جمعية العميد العلمية وجامعة الكوفة ومسجد الكوفة المعظَّم واتحاد الأدباء والكتّاب في النجف الأشرف، مشاركة بحثٍ علمي لفت الأنظار لما طرحه من قراءة حديثة للمنظور القيمي والتربوي في مدرسة الإمام علي (عليه السلام) وربطه بقضايا الأسرة والتنمية المستدامة في عالم اليوم.

البحث حمل عنوان:
«
قراءة للمنظور القيمي والتربوي في مدرسة أمير المؤمنين (عليه السلام
وقدّمه الباحث أحمد السهلاني، متناولاً فيه رؤية شاملة لدور الإمام علي (عليه السلام) في بناء الإنسان والأسرة والمجتمع، بوصفه نموذجاً إصلاحياً وتربوياً متكاملاً سبق في عمقه كثيراً من النظريات الحديثة في التنمية البشرية والاجتماعية.

 

الإمام علي (ع)… مدرسة قيمية وتربوية تتجاوز حدود الزمن

ينطلق البحث من تأكيد مكانة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بوصفه «كعبة الدين بعد النبي»، وخليفة رسول الله (ص) الذي سار على نهجه في ترسيخ العدل وتطوير المؤسسة الاقتصادية للدولة الإسلامية الفتية، وبناء روح الألفة والتسامح في المجتمع.

ويشير الباحث إلى أن القيم الأخلاقية والتربوية في مدرسة الإمام علي (ع) ليست مجرد مواعظ، بل هي مرتكز تشريعي وحضاري يقوم عليه الإسلام، حيث تترابط قيم العدالة والمساواة والرحمة مع كل تفاصيل الحياة الفردية والاجتماعية، ويُكَرَّم الإنسان فيها بما هو إنسان، دون تمييز بين مسلم وغيره أو بين مؤالف ومخالف.

ويلفت البحث إلى أن كثيراً من المستشرقين المنصفين وقفوا بإعجاب أمام هذه الشخصية الفريدة، مستشهداً بالمقولة الشهيرة:

«إن الإمام علي لم يرَ المشرقُ أميراً أكثر منه فضيلة».

 

مشكلة البحث: فجوة بين تراث حيّ وواقع مضطرب

تتمحور إشكالية الدراسة حول الفجوة بين التراث القيمي الزاخر لمدرسة الإمام علي (ع) وبين واقع الأسرة والمجتمع في عالم اليوم، حيث يهيمن النموذج المادي الغربي الذي يحاول – كما يصف الباحث – إعادة صياغة الإنسان والأسرة وفق معايير مادية «بلا ذاكرة تاريخية»، عبر تفكيك مفهوم الأسرة وإفراغه من أُسسه التشريعية والقيمية.

ومن هنا يأتي البحث كدراسة تأصيلية للمنظومة القيمية والأخلاقية في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، مع التركيز على الإمام علي (عليه السلام) بوصفه نموذجاً للدولة العادلة والأسرة السوية والمجتمع المتوازن، في مقابل اختلالات الواقع المعاصر من تفكك أسري، وتيه قيمي، وانبهار غير محسوب بالعولمة وثقافة الاستهلاك.

 

أهداف البحث وأهميته: من تراث الإمامة إلى مشروع تنموي معاصر

يرسم الباحث عدة أهداف رئيسة لدراسته، من أبرزها:

  • إبراز البعد القيمي والتربوي في مدرسة الإمام علي (ع)، واستلهام ما تحمله سيرته من دروس لبناء الإنسان والمجتمع.
  • تبيان دور الأسرة بوصفها «حجر الأساس» في مشروع الإمام علي (ع) الإصلاحي، وكيف قدّم الإسلام نموذجاً للأسرة المتماسكة القائمة على الحماية والنصرة والتكافل.
  • تسليط الضوء على فلسفة التربية الفكرية للشباب، وأهمية تنمية قدرات التفكير والتحليل والنقد والإبداع لديهم، في زمن تتسارع فيه التحديات المعرفية والتقنية.
  • مقارنة بين النموذج الإسلامي والنموذج الغربي في التعامل مع الأسرة والقيم، وبيان قصور المقاربة المادية التي تختزل العلاقات الأسرية في تلبية الاحتياجات والملذات، مقابل المشروع الإسلامي الذي يؤسّس لحياة كريمة متوازنة.

وتنبع أهمية البحث – كما يؤكد السهلاني – من أنه يسعى إلى تحويل تراث الإمام علي (عليه السلام) من نصوص مُكرَّرة في الخطب إلى دليل عمل مجتمعي وتنموي دائم، يمكن أن يسترشد به صانعو القرار التربويون والأسريّون في عالمنا العربي والإسلامي.

 

منهجية وبنية البحث

اعتمد الباحث المنهج الاستقرائي الوصفي؛ من خلال قراءة الواقع الأسري والاجتماعي الراهن، ومقارنته بالمنظور القيمي والتربوي لمدرسة الإمام علي (عليه السلام).

وتكوّن البحث من مبحثين رئيسين:

1.  المبحث الأول: الإسلام والتربية الصالحة
تناول فيه موقف الشريعة الإسلامية من الأسرة والمجتمع من منظور قيمي وتربوي، مع بيان مفهوم القيم في الإسلام وآراء المختصين في هذا المجال.

2.  المبحث الثاني: علي منهج الحق
وخُصِّص لعرض معالم المنهج التربوي الذي اتّبعه أمير المؤمنين (عليه السلام)، والسياسة العامة للدولة في عهد خلافته، مع الوقوف عند الجوانب العملية من سيرته في إدارة المجتمع وبناء الإنسان.

وفي ختام البحث، عرض السهلاني مجموعة من الاستنتاجات والتوصيات بوصفها «دليل عمل مجتمعي تنموي» يمكن البناء عليه في الخطط التربوية والثقافية.

 

المبحث الأول: الإسلام والتربية الصالحة… القيم في مواجهة العولمة

يرصد المبحث الأول التحوّل الذي أصاب فلسفة الأسرة في العالم المعاصر، حيث سعت العولمة الاقتصادية والثقافية إلى تفكيك البنية الأسرية التقليدية وإعادة صياغتها وفق نموذج فرداني مادي، ما انعكس على القيم والسلوكيات وعلى هوية الأجيال الجديدة.

ويؤكد البحث أن الإسلام – من خلال القرآن الكريم وسنة النبي (ص) ومدرسة أهل البيت (ع) – قدّم نظاماً أسرياً متكاملاً يتسم بالشمول والقوة والمرونة، يقوم على:

  • تلاحم أفراد الأسرة، والحماية المتبادلة، والنصرة، والشعور بالمسؤولية المشتركة.
  • منظومة قيم واضحة تشمل الصدق، والعدل، والرحمة، والتعاون، واحترام الإنسان كإنسان.
  • مسؤولية تربوية أخلاقية تجعل من الأسرة أول وأهم مؤسسة لغرس القيم في نفوس الأبناء.

ويحذر السهلاني من اندماج غير واعٍ بين القيم الإسلامية والأطر الفكرية الغربية المحدودة، وخصوصاً في ميدان التربية، معتبراً أن ذلك قد يقود إلى ضياع الهوية الدينية والقيمية للأجيال، وإلى تبنّي نماذج تعليمية لا تنسجم مع روح المجتمع الإسلامي وخصوصيته الثقافية.

 

المبحث الثاني: «علي منهج الحق».. نموذج تربوي وتنموي مستدام

في المبحث الثاني، ينتقل الباحث إلى قراءة تفصيلية للمنهج الذي اتّبعه الإمام علي (عليه السلام) في إدارة الدولة وتربية المجتمع، مبيناً كيف جمع بين:

  • العدالة الاقتصادية والاجتماعية
    حيث دافع الإمام عن حقوق عامة الناس، وحارب الفقر، ووفّر فرص العمل، وفعّل الضمان الاجتماعي، وأشرف على إصلاح المهن والحرف بما ضمن بيئة اجتماعية آمنة ومستقرة.
  • احترام الإنسان كغاية للتنمية
    وهو ما يلتقي – كما يشير البحث – مع المبدأ الأول لإعلان البيئة والتنمية المستدامة لعام 1992، الذي يجعل البشر محور الاهتمام بالتنمية، مع حقهم في حياة صحية ومنتجة في انسجام مع الطبيعة.
  • المنظومة التربوية الأسرية
    فقد قدّم الإمام علي (عليه السلام) نموذجاً متقدماً في التربية بالقدوة، والتزام الحاكم قبل غيره بأعلى درجات النزاهة، كما في مواقفه المعروفة من المطالبة بأموال بيت المال أو الامتيازات الشخصية للأقرباء؛ وهي مواقف يوظفها الباحث لإبراز النموذج التربوي العملي الذي يجمع بين الخطاب والقيم والسلوك الواقعي.
  • الرؤية الكونية المتوازنة
    حيث يربط الإمام (عليه السلام) بين التوحيد والعدل والعلم والعمل، ويقدّم رؤية «عالمية» تقوم على التعارف بين الشعوب لا على الهيمنة والإقصاء، في مقابل العولمة المادية التي تقودها الشركات متعددة الجنسيات وتقوم على الربح والاحتكار.

 

تلاقي فكر الإمام علي (ع) مع مفهوم التنمية المستدامة

من أهم ما توصّل إليه البحث، وجود تلاقٍ جوهري بين فكر الإمام علي (عليه السلام) وبين مفهوم التنمية المستدامة للأسرة والمجتمع كما صيغ في المواثيق الدولية الحديثة؛ فكلاهما:

  • يرتكز حول الإنسان بوصفه محور الاهتمام ومركز العملية التنموية.
  • يؤكد أن العدالة الاقتصادية والاجتماعية شرط لبناء مجتمع متماسك ومستقر.
  • يربط بين صون الكرامة الإنسانية وحماية الموارد وبين استقرار المجتمع وازدهاره.

ويرى السهلاني أن تجربة الإمام علي (عليه السلام) في إدارة شؤون الدولة تمثل نموذجاً مبكراً للتنمية الشاملة؛ إذ لم يكتفِ بإقامة العدل في توزيع الثروات، بل عمل على إصلاح النفوس وغرس القيم في الضمير الجمعي، بما يضمن استدامة هذه التنمية وعدم انحرافها إلى الاستغلال أو الفساد.

 

توصيات: نحو فلسفة تربوية تحصّن الشباب والأسرة

اختتم الباحث دراسته بمجموعة من التوصيات العملية، من أبرزها:

  • تعزيز التفكير النقدي والإبداعي لدى الشباب، وتشجيعهم على التفكير خارج الصندوق وتطوير حلول مبتكرة للتحديات المختلفة، بعيداً عن الاستهلاك السلبي لمنتجات العولمة.
  • تنمية مهارات البحث والتحليل والوعي الثقافي والاجتماعي لدى الأبناء، وربط ذلك بالهوية الإسلامية والقيم الأصيلة.
  • تكريس دور الأسرة بوصفها المسؤول الأول عن تربية الأبناء، مع ضرورة أن يجسّد الوالدان القيم الإسلامية في سلوكهما اليومي ليكونا «قدوة حية» أمام أبنائهما.
  • دمج القيم الإسلامية وسلوكياتها التطبيقية في المناهج الدراسية في جميع المراحل، وربط التربية المعرفية بالتربية القيمية والوجدانية.
  • بناء تحالفات ثقافية لمواجهة أحادية العولمة، عبر تعزيز التنوع الثقافي، وتفعيل دور الشباب كقادة للتغيير لا كمجرد مستهلكين للثقافة السائدة.

 

 

بهذا البحث، يقدّم أحمد السهلاني إسهاماً نوعياً في مشروع إحياء تراث أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي يتبنّاه مركز المرايا للدراسات والإعلام من خلال مؤتمراته العلمية وشراكاته مع العتبات والجامعات والاتحادات الثقافية.

فالدراسة لا تكتفي بتوثيق فضائل الإمام علي (عليه السلام)، بل تسعى إلى تحويل منظومته القيمية والتربوية إلى إطار عمل معاصر؛ يقدّم جواباً عملياً لأزمات الأسرة والشباب والهوية في عالم مضطرب، ويضع أمام المربين وصُنّاع السياسات التربوية نموذجاً متكاملاً لإنسانٍ كريم، واعٍ، وعادل، كما أراده الإمام علي (عليه السلام) وكما أرادته رسالة الإسلام الخاتمة.

 

 

أحدث أقدم