بحثٌ يسلّط الضوء على «نظم الأمر» في فكر الإمام علي (ع) ضمن أعمال المؤتمر العلمي الرابع لإحياء تراث أمير المؤمنين (ع)


 

شارك بحثٌ علمي مميّز في أعمال المؤتمر العلمي الرابع لإحياء تراث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي أقامه مركز المرايا للدراسات والإعلام في النجف الأشرف، برعاية كريمة من العتبة العباسية المقدسة، وبالتعاون مع جمعية العميد العلمية وجامعة الكوفة ومسجد الكوفة المعظّم واتحاد الأدباء والكتّاب في النجف الأشرف، ضمن المحور الثالث: التنشئة الاجتماعية والتحديات المعاصرة.

البحث الذي قدّمه م. هاشم محمد محمد باقر الباججي حمل عنوان:
«
نظم الأمر وأهميته في التنشئة الاجتماعية في فكر الإمام علي (عليه السلام،
وهو دراسة تربوية – اجتماعية تقرأ وصايا الإمام علي (ع) ورؤيته لمسألة «نظم الأمر» بوصفها مدخلاً لبناء شخصية الإنسان الشاب وتنشئته تنشئة متوازنة وصالحة في زمان تتزايد فيه التحديات.

 

منطلقات البحث: من بحر كلمات الإمام إلى حاجات الشباب اليوم

ينطلق الباحث من حقيقة يصفها بوضوح: أن كلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ما يزال غضّاً طرياً، وكلما تعمّق العلماء والباحثون في شرحه وتحليله وجدوا أنفسهم أمام بحر زاخر من المعارف في السياسة والتربية والأخلاق والإدارة وسائر مجالات الحياة.

ومن هذا البحر اختار الباحث مفهومًا محوريًا هو «نظم الأمر» الوارد في وصية الإمام (ع) لأولاده وأهل بيته وعموم المسلمين، ليجعله محوراً لدراسةٍ تسعى إلى:

  • بيان أهمية التنظيم والتخطيط في حياة الفرد والمجتمع.
  • استكشاف دور هذا المفهوم في التنشئة الاجتماعية للشباب وبناء شخصية متكاملة أخلاقيًا وسلوكيًا.
  • ربط وصايا الإمام علي (ع) بالواقع المعاصر الذي يتطلب وعياً ذاتياً وتنظيماً دقيقاً في ظل كثرة المشاغل والتحديات.

وقد قُسِّم البحث إلى مقدمة ومبحثين رئيسين:

1.     نظم الأمر ودوره في المجتمع.

2.     التنشئة الاجتماعية وتكامل الشخصية لدى الشباب في ضوء كلام الإمام علي (ع).

 

المبحث الأول: «نظم الأمر»… من إدارة الذات إلى حفظ النظام الاجتماعي

يبدأ الباحث بتعريف التنظيم بوصفه سرّ نجاح الأعمال على مستوى الأفراد والمؤسسات؛ فكل مشروع أو مؤسسة لا تقوم على تخطيط وتنظيم واضحين تكون أقرب إلى الفوضى والتعثّر.

ويشرح أن:

  • التنظيم الجيد لا ينفصل عن التخطيط المسبق، وتحديد الأهداف، واعتماد مبدأ الأولويات (الأهم فالمهم).
  • «نظم الأمر» يعني حسن إدارة الإنسان لذاته وحياته: إدارة الوقت، العلاقات، السلوك، الأفكار، الطاقات والإمكانات، واستثمارها بصورة مثلى تؤدي إلى النجاح وتحقيق المسؤوليات الدينية والاجتماعية.

ومن هذا المنطلق، يصبح «نظم الأمر» منهجاً يساعد الفرد على:

  • معرفة ما له وما عليه تجاه ربه من عبادات وواجبات.
  • معرفة مسؤولياته تجاه الناس والمجتمع من حقوق وواجبات.
  • اكتشاف نقاط القوة في شخصيته وتعزيزها، ومواطن الضعف والسعي لتصحيحها.
  • تنظيم علاقاته الأسرية والاجتماعية وفق معايير واضحة، يعرف فيها من يُصاحب ومن يُجتنب.

ويستشهد البحث بوصية الإمام علي (ع) لابنه الحسن (ع):

«يا بُنيَّ احفظ عني أربعاً وأربعاً...»
حيث يقسّم الإمام الوصايا إلى ما يخصّ ذات الإنسان وما يتعلق بـ علاقاته الاجتماعية، في إشارة عميقة إلى أن التنظيم يبدأ من الداخل وينعكس على الخارج.

كما يتوقف البحث عند الوصية الخالدة للإمام (ع) وهو على فراش الشهادة:

«أُوصِيكُمَا وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي بِتَقْوَى اللهِ وَنَظْمِ أَمْرِكُمْ...»

فيضع الباحث هذه العبارة تحت الضوء، مبينًا التلازم بين التقوى ونظم الأمر:

  • فـالتقوى تحصّن الداخل، وتبني الضمير، وتحفظ حدود الله.
  • والنظم يضبط حركة الإنسان، يحميه من الفوضى، ويوجّه جهده نحو أهداف واضحة، فيتحقق النجاح الفردي والاجتماعي.

 

«الأمر» في القرآن وسياق أهل البيت (ع): شأن اجتماعي – سياسي جامع

يتوسّع البحث في بيان مفهوم «الأمر» في القرآن الكريم، مستعرضاً آيات مثل:

  • ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾
  • ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ...

ويستنتج أن كلمة «الأمر» هنا لا تعني الشأن الفردي البسيط، بل الشأن الاجتماعي – السياسي الجامع، المتعلّق بمصالح الأمة وتنظيم شؤونها العامة، وإدارة الحرب والسلم، وتوزيع الأدوار والمسؤوليات.

ثم يربط هذا المعنى بما ورد في روايات أهل البيت (ع)، حيث يُستعمل «الأمر» في سياق:

  • «أمرنا»، «من كان على هذا الأمر»، «أحيوا أمرنا»
    أي: ولايتهم وشأنهم العام في قيادة الأمة، وليس مجرد اعتقاد نظري.

ومن هنا يخلص الباحث إلى أن «نظم الأمر» في فكر الإمام علي (ع) يعني:

  • تنظيم الشأن العام للأمة.
  • حفظ النظام الاجتماعي والسياسي.
  • إدارة المجتمع وفق قواعد الشورى والعدالة والكفاءة.

وبذلك يتجاوز المفهوم حدود الإدارة الفردية ليصبح مشروعاً لبناء مجتمع منظم ومتماسك.

 

المبحث الثاني: التنشئة الاجتماعية للشباب في ضوء كلمات الإمام علي (ع)

ينتقل البحث بعد ذلك إلى سؤال عملي:
كيف تُسهم وصايا الإمام علي (ع) في تنشئة الشباب اجتماعياً وبناء شخصيات متكاملة أخلاقياً وروحياً؟

يُحدّد الباحث ثلاثة عوامل رئيسة في تكوين الشخصية الإنسانية:

1.     العامل الوراثي وما يحمله من خصائص روحية وأخلاقية.

2.     التعليم والدراسة والثقافة العامة.

3.     البيئة الاجتماعية المحيطة من أسرة وأصدقاء ومجتمع.

وتعمل هذه العوامل مجتمعة على نمو الصفات الحسنة أو القبيحة في الشخصية، بحسب ما يُزرع فيها ويُنمّى من خلال السلوك اليومي والتربية.

كما يتناول البحث مفهوم الأخلاق في المنظومة الإسلامية بوصفها:

  • قواعد إلهية تنظّم السلوك الإنساني.
  • غايتها تحقيق العبودية لله وبناء مجتمع صالح.
  • تنطلق من الإيمان والعبادة، حيث «بعث النبي (ص) ليتمّم مكارم الأخلاق».

 

أسس للتنشئة الاجتماعية في ضوء نهج الإمام علي (ع)

يقدّم الباحث مجموعة من الأسس التربوية العملية المستفادة من كلام الإمام علي (ع)، ويرى أنها تشكّل برنامجاً متكاملاً لتنشئة الشباب تنشئة اجتماعية سليمة، من أبرزها:

1. إصلاح الذات قبل إصلاح الآخرين

يركّز الإمام (ع) على أن البداية من الداخل:

«عَجِبتُ لِمَن يَتَصدّى لإصلاحِ الناسِ ونَفسُهُ أشدُّ شيءٍ فساداً...»

ويوضح البحث أن من يريد أن يتصدّى للشأن العام أو للعمل الإصلاحي أو التربوي، لا بد أن يكون:

  • قد بدأ بإصلاح نفسه.
  • وجعل سيرته العملية موافقة لسانه، كما في قوله (ع):

«مَن نَصَبَ نفسَهُ للنّاسِ إماماً فليبدأْ بتعليمِ نفسِهِ قبلَ تعليمِ غيرِهِ...»

2. تربية النفس والسريرة

يرى الإمام أن صلاح السريرة أساس لصلاح العلانية:

«مَن أصلحَ سريرتَه أصلحَ اللهُ علانيته».

ويشبّه البحث النفس بالنبات الذي يتأثر بنوع السقي؛ فما كان سقيه طيباً طابت ثمرته، وما كان سقيه خبيثاً خبثت ثمرته. وهكذا هي التربية: ما يُزرع في داخل النفس من قيمٍ ومعارف ينعكس سلوكاً ظاهراً في المجتمع.

3. الحذر من اتباع الهوى وطول الأمل

يُبرز البحث تحذير الإمام (ع) الشهير:

«إنَّ أخوفَ ما أخافُ عليكم اثنتان: اتّباعُ الهوى وطولُ الأمل...»

  • اتّباع الهوى يصدّ عن الحق، ويدفع الإنسان إلى الانحراف الأخلاقي والاجتماعي.
  • طول الأمل يُنسي الآخرة، ويحبس الإنسان في دوامة التسويف والغفلة حتى يفجأه الموت.

وهذا التحليل يمسّ واقع الشباب اليوم الذي تحيط به الإغراءات والشهوات، ويحتاج إلى وعي وضبط للنفس وتربية متوازنة.

4. الزهد الإيجابي لا الانسحاب من الحياة

يشرح الباحث مفهوم الزهد في فكر الإمام علي (ع) بأنه ليس تركاً للدنيا ونعمها، بل وضع الأشياء في مواضعها، وعدم التعلّق المَرَضي بالماديات.

فالزهد عند الإمام (ع) أن:

  • لا يحزن الإنسان على ما فاته من الدنيا.
  • ولا يفرح فرحاً يُنسيه الآخرة بما أُوتي من متاع.

ومع ذلك يدعو الإمام إلى التوازن:

«للمؤمن ثلاث ساعات: ساعة يُناجي فيها ربَّه، وساعة يرمُّ فيها معايشه، وساعة يخلّي فيها بين نفسه وبين لذّتها فيما يحلّ ويجمل...»

5. تذكّر الموت وأثره في تهذيب السلوك

يبيّن البحث أن تذكّر الموت يحتلّ مساحة واسعة في خطب الإمام (ع)، لما له من أثر تربوي عميق: فهو يطفئ جذوة الطمع، ويكسر غرور النفس، ويعيد ترتيب الأولويات.

فمن يرى مصيره إلى القبر لا يمكن أن يُطلق العنان لشهواته دون حدود، بل يسعى إلى عملٍ صالح يخفّف عنه أهوال ذلك اليوم.

6. أسلوب الترغيب وآثاره الدنيوية والأخروية

يتوقّف الباحث عند أسلوب الترغيب في تربية النفس، من خلال بيان ثمار التقوى والإصلاح في الدنيا قبل الآخرة؛ إذ «ذهب المتقون بعاجل الدنيا وآجل الآخرة» كما يعبّر الإمام (ع).

فالترغيب في رحمة الله، وفي آثار الاستقامة على مستوى راحة البال واستقرار المجتمع، يشكّل دافعاً قوياً للشباب كي يلتزموا بالسلوك القويم، لا خوفاً فقط من العقاب، بل شوقاً إلى حياة كريمة في الدنيا ونعيم في الآخرة.

 

خلاصة واستنتاجات

يخلص البحث إلى أن «نظم الأمر» في فكر الإمام علي (عليه السلام) ليس شعاراً أخلاقياً عابراً، بل:

  • منهج حياة فردية لإدارة الذات وتنظيم الوقت والعلاقات والتكاليف.
  • ومشروع اجتماعي لحفظ النظام العام، وتحقيق العدالة، ومنع الفوضى والتمزّق داخل الأمة.
  • وأساس تربوي لتنشئة الشباب على المسؤولية والانضباط واحترام الأولويات.

كما يؤكد أن الجمع بين التقوى ونظم الأمر هو الطريق الأنجع لبناء شخصية متوازنة ومجتمع متماسك، وأن استلهام هذا المفهوم في البرامج التربوية والتعليمية المعاصرة يمكن أن يساهم في:

  • معالجة كثير من مظاهر الفوضى الأسرية والاجتماعية.
  • تعزيز روح المبادرة والجدّية لدى الشباب.
  • ترسيخ قيم النظام والالتزام والمسؤولية في مؤسساتنا التعليمية والعملية.

يشكّل هذا البحث إضافة علمية مهمة لأعمال المؤتمر العلمي الرابع لإحياء تراث أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي ينظمه مركز المرايا للدراسات والإعلام برعاية العتبة العباسية المقدسة وشراكة الجمعية والجامعة والمسجد والاتحاد الثقافي في النجف الأشرف.

فهو لا يكتفي بعرض النصوص العلوية، بل يحاول تحويل وصية الإمام «تقوى الله ونظم أمركم» إلى برنامج تربية وتنشئة موجهٍ للشباب والأسرة والمجتمع، بما يعزّز حضور الفكر العلوي في مواجهة التحديات الاجتماعية المعاصرة، ويجعل من تراث الإمام علي (ع) طاقة حيّة في بناء الإنسان والمجتمع اليوم.

أحدث أقدم