بحثٌ مشترك يستجلي مفهوم التربية في تراث الإمام علي (ع) ضمن أعمال المؤتمر العلمي الرابع لإحياء تراث أمير المؤمنين (ع)

 


شارك بحثٌ علمي مشترك في أعمال المؤتمر العلمي الرابع لإحياء تراث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي أقامه مركز المرايا للدراسات والإعلام في النجف الأشرف، برعاية كريمة من العتبة العباسية المقدسة، وبالتعاون مع جمعية العميد العلمية وجامعة الكوفة ومسجد الكوفة المعظّم واتحاد الأدباء والكتّاب في النجف الأشرف، حمل عنوان:

«مفهوم التربية وأساليبها في تراث الإمام علي عليه السلام»

وهو بحثٌ مشترك أعدّته الدكتورة فادية يعكوب يوسف والدكتورة نور عادل جاسم، سعى إلى تقديم قراءة تربوية أصيلة لفكر الإمام علي (عليه السلام)، في محاولة لتأسيس مفهومٍ إسلاميٍّ للتربية يناسب هوية الأمة ورسالتها الحضارية، في مقابل هيمنة المفاهيم التربوية الوافدة من الغرب على مناهج العالم الإسلامي ومؤسساته التعليمية.

 

التربية بين المرجعية الغربية والعودة إلى الجذور الإسلامية

تؤكد الباحثتان في مستهلّ دراستهما أن التربية في العالم الإسلامي ما زالت تعتمد بصورة أساسية على ما وصل إليه الفكر التربوي الغربي من تعريفات وأهداف، الأمر الذي انعكس – كما ترصدان – على هوية الأمة الإسلامية ودورها في نشر قيم الدين؛ إذ أدى هذا الارتهان إلى مرجعيات غير إسلامية إلى نوع من القعود عن أداء الدور الرسالي المنوط بالأمة.

وترى الدراسة أن التصحيح يبدأ من تصحيح المفاهيم؛ وفي مقدمتها مفهوم التربية ذاته، من خلال الرجوع إلى ما قرّره المسلمون الأوائل، واستحضار التجربة التربوية الفريدة للإمام علي (عليه السلام)، الذي تشكّلت شخصيته في مدرسة النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، وانعكست تلك التربية في مواقفه ودوره المحوري في تثبيت دعائم الدعوة الإسلامية.

 

أهداف البحث: تأسيس رؤية تربوية معاصرة من تراث الإمام علي (ع)

حدّد البحث هدفين رئيسين:

  1. التعرّف على مفهوم التربية وأهدافها عند الإمام علي (عليه السلام)، من خلال أقواله وخطبه ووصاياه وسيرته العملية.
  2. الاستفادة من هذا المفهوم في تأصيل الفكر التربوي المعاصر، وإعادة بنائه على أسس مستمدة من تراث أهل البيت (عليهم السلام) بما يربط حاضر الأمة بماضيها ويتطلع إلى مستقبل أفضل.

وبناءً على تحليل النصوص، تستخلص الباحثتان تعريفاً للتربية عند الإمام علي (ع):

«التربية هي إعداد الإنسان لحياتَي الدنيا والآخرة في ضوء نظرة الإسلام للإنسان وعلاقته بالخالق والكون والمجتمع»،
وهو تعريف يختلف عن كثير من التعريفات الحديثة التي تحصر التربية في إعداد الفرد للحياة الدنيوية أو لسوق العمل فقط.

 

المبحث الأول: مفهوم التربية عند أمير المؤمنين (ع) – ثلاثة أبعاد زمنية متكاملة

يعرض المبحث الأول التصوّر الشامل للتربية في فكر الإمام علي (عليه السلام)، وينطلق من فكرة محورية، وهي أن هذا المفهوم يقوم على ثلاثة أبعاد زمنية متداخلة: الماضي، الحاضر، المستقبل.

1. البعد التاريخي: استدعاء خبرات الماضي

يرى الإمام علي (عليه السلام) – كما توضح الباحثتان – أن لكل مجتمع رصيداً من الخبرات والتجارب والقيم تراكم عبر الأجيال، ولا يمكن للجيل الحاضر أن يواجه تحدياته من دون استدعاء هذا المخزون والاستفادة منه.

وتستشهد الدراسة بوصايا الإمام لابنه الحسن (ع) بضرورة «عرض أخبار الماضين على القلب» والسير في ديارهم والاعتبار بمصائرهم، وكذلك الحثّ على الاستفادة من تجارب أهل الخبرة حتى لا يضطر الجيل الجديد لإعادة خوض التجارب من نقطة الصفر.

2. البعد الواقعي: معالجة قضايا الحاضر بخطة واعية

الحاضر – في رؤية الإمام علي (عليه السلام) – ليس مجرد زمن يمر، بل ساحة امتحانٍ للتجارب ومواجهة التحديات الواقعية. لذلك يدعو إلى التعامل معه بعقلٍ متفهّم وخطة مدروسة، والاستعانة بالله تعالى عند الإقدام على المعرفة وعدم الانجرار وراء الشبهات والخصومات العقيمة.

وتبرز الدراسة وصايا الإمام لابنه الحسن (ع) بأن يكون طلب العلم «بتفهّم وتعلّم»، لا بالتورّط في الشبهات، وأن يبدأ كل نظر في الأمور بالاستعانة بالله طلباً للتوفيق، وهو ما يشكل أساساً لتربية عقل نقديٍّ متوكّلٍ في آن واحد.

3. البعد المستقبلي: التربية إعدادٌ لما هو آتٍ

تؤكد الدراسة أن التربية بطبيعتها عملية مستقبلية، تسعى إلى إعداد الإنسان لعالمٍ متغير قد تختلف فيه وسائل تحقيق الأهداف، مع ثبات القيم الكبرى. وتُبرز الباحثتان استشهاد الإمام بالآية الكريمة:

﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾،
وقوله المشهور: «لا تُعَوِّدوا أبناءكم على أخلاقكم فإنهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم»،
في إشارة واضحة إلى ضرورة مراعاة اختلاف الأزمنة، وإعداد الأجيال لزمنهم لا لزمن آبائهم.

 

حقّ التربية والتعليم… مسؤولية الحاكم والمجتمع

تسلّط الدراسة الضوء على أن الإمام علي (عليه السلام) جعل التربية من الحقوق الأساسية للرعية على الحاكم، إلى جانب العدل وتوفير الموارد، مستشهدةً بنصوصٍ يصرّح فيها بأن من حق الناس عليه «أن يعلّمهم كيلا يجهلوا، ويؤدّبهم كيما يعلموا».

وتشير الباحثتان إلى أن الإمام مارس هذا الدور عملياً؛ فحلقته العلمية في مسجد الكوفة، وتعليمه لأصحابه حتى في ساحات القتال، وتوجيهه لولاته بأن «يذكروا الناس بأيام الله، ويعلّموا الجاهل، ويفتوا المستفتي»، كلها شواهد على أن التعليم عنده حقٌّ عام لكل فئات المجتمع، حتى الجنود في ساحات الجهاد، وهو ما سبقت به التجربة الإسلامية كثيراً من المواثيق الحديثة التي نصّت لاحقاً على «حق التعليم للجميع».

 

طبيعة المتعلم في فكر الإمام علي (ع): فطرة خيّرة قابلة للتشكّل

تتوقف الدراسة عند تصوّر الإمام علي (عليه السلام) لطبيعة المتعلم، وتقارنه باتجاهات تربوية غربية ترى الإنسان شريراً بطبعه أو خيراً بالكامل أو محايداً تحدده البيئة وحدها، لتخلص إلى أن الإمام علي (ع) يقدّم رؤية مختلفة تقوم على:

  • أن الفطرة الإنسانية خيّرة في أصلها، والشرّ عارض عليها.
  • أن السلوك نتاج تفاعل الوراثة والبيئة معاً، فلا الوراثة وحدها ولا البيئة وحدها تكفي لتفسير سلوك الإنسان.
  • أن الإنسان يولد بلا معرفة تفصيلية، لكن بعقلٍ واستعدادات قابلة للتشكيل، وهو ما تؤيده الدراسات النفسية الحديثة.

وتُبرز الباحثتان تأكيد الإمام على مرونة الطبيعة الإنسانية وقدرتها على التعلم عبر التجربة والفهم، مع ضرورة إعطاء المتعلم الثقة بنفسه، كما في وصاياه لابنه الحسن (ع) بأن يجعل نفسه ميزاناً بينه وبين الناس، فيحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لها.

 

أساليب التربية في نهج الإمام علي (ع): بين الأسرة والمعلم

تخصّص الدراسة مساحة واسعة للحديث عن أساليب التربية العملية المستنبطة من فكر الإمام علي (عليه السلام)، وتضع مسؤولية التربية أولاً على الأسرة، ثم على المعلّم، مستخلصةً جملة من المبادئ، من أبرزها:

  • النزول إلى مستوى الطفل (التصابي له)، ومخاطبته بقدر فهمه لبناء الثقة وكشف مشكلاته.
  • مراعاة اختلاف الأزمنة وعدم فرض عادات الآباء على الأبناء؛ لأنهم «مخلوقون لزمان غير زمانكم».
  • البدء بالتربية في سن مبكرة، مستنداً إلى تشبيه قلب الحدث بـ«الأرض الخالية» التي تقبل كل ما يُلقى فيها، وإلى الحثّ النبوي والفقهي على تعليم الصغار.
  • رفض اللجوء للعقاب البدني إلا بعد استنفاد أساليب النصح والإقناع، مع الدعوة إلى إمهال المخطئ وقتاً للاعتذار وعدم تتبع الذنب بالعقوبة مباشرة.
  • التأكيد على أن النصح في العلن تقريع، وأن توجيه الملاحظات يجب أن يكون في الوقت والمكان المناسبين حفظاً لكرامة المتعلم.

وترى الباحثتان أن هذه الرؤية تجعل من المربّي قدوةً خُلقيّة وخبيراً بأساليب المعاملة الإنسانية قبل أن يكون ناقلاً للمعرفة.

 

المبحث الثاني: أهداف التربية في فكر الإمام علي (عليه السلام)

ينتقل البحث في مبحثه الثاني إلى تحديد الأهداف التربوية عند الإمام علي (ع)، باعتبار أن وضوح الهدف شرط لنجاح أي عمل تربوي. وتضع الدراسة هذه الأهداف في مجموعة محاور رئيسة:

1. الأهداف الدينية

تُعد التقوى محوراً أساسياً في التربية عند الإمام علي (عليه السلام)، فهي معيار التفاضل بين الناس وسبيل حمايتهم من المحارم ودافعهم للعمل للآخرة. وتستعرض الدراسة نصوصاً يصف فيها الإمام التقوى بأنها التي «أسهرت ليالي الأولياء وأظمأت هواجرهم»، وأنها خير ما يتواصى به العباد.

2. الأهداف الفكرية والعقلية

تهدف التربية – في تصور الإمام – إلى تنمية العقل والتفكير العلمي عبر:

  • التأمل العقلي واستخدام العقل كأداة لتمييز سبل الخير عن طرق الغي.
  • تعظيم شأن العلم وتفضيله على المال؛ لأن العلم يحرس صاحبه بينما يحتاج المال لمن يحرسه.
  • الحثّ على مجالسة العلماء ومناقشتهم ومدارسة الحكماء، بما ينمّي ملكة التفكير والنظر.
  • تشجيع التفكر في مخلوقات الله تعالى وآيات الكون للوصول إلى الإيمان الواعي.
  • الدعوة إلى التريث في إصدار الأحكام والتحقق من الأخبار قبل البناء عليها.

3. الأهداف الاجتماعية

تبرز الدراسة ثراء التشريعات الاجتماعية في الإسلام كما يقدّمها الإمام علي (عليه السلام)، من خلال تقسيمه المجتمع إلى طبقات وظيفية متكاملة (الجنود، الكتّاب، القضاة، أهل الخراج، التجار، أصحاب الصناعات، الفقراء…) مع التأكيد على العدل والمساواة وإعطاء كل ذي حق حقه وفق شريعة الله.

4. التغيير الاجتماعي انطلاقاً من تغيير النفس

تؤكد الباحثتان أن الإمام علي (عليه السلام) يربط التغيير الاجتماعي بالتغيير النفسي، انسجاماً مع الآية القرآنية: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾، داعياً إلى محاسبة النفس ووزنها قبل أن تُوزن يوم القيامة، بما يجعل التربية مشروعاً للإصلاح الداخلي يسبق الإصلاح الخارجي.

5. الأهداف الثقافية ونقل التراث المنقّى

تتوقّف الدراسة عند دور التربية في نقل التراث الثقافي من جيل إلى جيل، مع ضرورة تنقيته من الشوائب، مستشهدةً بوصية الإمام لابنه الحسن (ع) حين يخبره أنه نظر في أعمال السابقين واستخلص له صفوها من كدرها، ونفعها من ضررها، ليقدّم له خلاصة التجربة الإنسانية في قالبٍ تربوي يناسب «مقبل العمر ومقتبل الدهر».

وتشير الباحثتان إلى تأكيد الإمام على البدء بتعليم القرآن وشرائع الإسلام قبل غيرها من المعارف، بوصفها أساس البناء الثقافي والقيمي للأمة.

 

خلاصة البحث: مفهوم تربوي شامل ومتكامل

تخلص الدراسة في نهايتها إلى أن الإمام علي (عليه السلام) قدّم مفهوماً شاملاً للتربية يتناول الإنسان بكل أبعاده: الديني، الفكري، الاجتماعي، الثقافي، وفي امتداد الأزمنة الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، على خلاف كثير من الاتجاهات التربوية الحديثة التي تجزّئ الأهداف أو تفصل بين المعرفة والقيم.

وتؤكد الباحثتان أن نجاح العملية التربوية – في ضوء تراث الإمام علي (ع) – يتوقف على:

  • البدء المبكر بالتربية وغرس الأخلاق في مرحلة الطفولة.
  • وجود المربّي القدوة القادر على استثمار طاقات الناشئة وتوجيهها.
  • مراعاة اختلاف الأزمنة عند إعداد الأجيال الجديدة.
  • التكامل بين حقوق الحاكم وحقوق الرعية في التعليم والتربية.

 

 

 

أحدث أقدم