شهد المؤتمر العلمي الرابع لإحياء
تراث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي أقامه مركز المرايا للدراسات
والإعلام في النجف الأشرف، برعاية كريمة من العتبة العباسية المقدسة،
وبالتعاون مع جمعية العميد العلمية وجامعة الكوفة ومسجد الكوفة
المعظّم واتحاد الأدباء والكتّاب في النجف الأشرف، مشاركة بحث علمي من جامعة
البصرة/ كلية التربية للبنات حمل عنوان:
«التربية الإنسانية بين أصالة وتداعيات
الحداثة – دراسة في فكر الإمام علي (عليه السلام)»
للباحثة م.د.
دنيا سلمان محسن.
هذا البحث سعى إلى تقديم قراءة عميقة
لمفهوم التربية الإنسانية في المنظور الإسلامي الأصيل، كما تجلّى في فكر
الإمام علي (عليه السلام)، ومقارنته بالمقاربات الحداثية المعاصرة في الفكر
التربوي الغربي، للكشف عن نقاط الالتقاء والاختلاف، وكيف يمكن استثمار هذا التراث
في معالجة أزمات الإنسان المعاصر تربوياً وأخلاقياً.
التربية
الإنسانية… بين منهج ثابت وحداثة متقلبة
توضح الباحثة في ملخص بحثها أن التربية
الإنسانية ليست مجرد تدريب على المهارات المعرفية، بل هي منهج يهدف إلى تنمية
القيم الإنسانية والأخلاقية، وتعزيز الشعور الإنساني تجاه الذات والآخرين على
حدّ سواء.
وتبيّن أن هناك مصدرين رئيسين لهذا
المنهج:
- المنهج الإسلامي القويم:
القائم على مرجعية ثابتة لا تتغيّر بتغيّر الأزمنة، هي القرآن الكريم والسنة النبوية، وقد جسّد الإمام علي (عليه السلام) هذا المنهج في أقواله وخطبه وسيرته، فكان – كما تصفه – أساس المناهج التربوية الإنسانية في الإسلام، ومثالاً حيّاً على تكريم الإنسان ورفع شأنه. - المقاربات الحداثية:
التي تستند إلى العقل البشري والخبرة والتجربة والقوانين الوضعية، وتسعى إلى صياغة منظومة تربوية إنسانية معاصرة، لكنها – بحسب الباحثة – تعاني قصوراً ملحوظاً في الجوانب الروحية والقيمية، ما يخلق فجوة بين التقدم التقني وبين بناء الإنسان المتوازن.
ومن هنا تنشأ إشكالية البحث: كيف يمكن توظيف الفكر الإسلامي
الأصيل، وبخاصة فكر الإمام علي (عليه السلام)، في معالجة القصور الكامن في
النظريات التربوية الحديثة، ولا سيما على مستوى الروح والقيم؟
هيكل
البحث ومنهجيته
اعتمدت الباحثة المنهج التحليلي
المقارن، من خلال:
- تحليل النصوص القرآنية والحديثية
وما ورد عن الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة وغيره.
- استقراء أبرز النظريات التربوية
الحديثة في مجال التربية الإنسانية.
- إجراء مقارنة منهجية بين المنهج
الإسلامي والمنهج الحداثي في هذا الميدان.
وتكوّن البحث من ثلاثة محاور رئيسة:
- مفهوم التربية الإنسانية
وأساليبها.
- أوجه الشبه والاختلاف بين المنهج
الإسلامي وتداعيات الحداثة.
- دور الإمام علي (عليه السلام) في
إغناء المجتمع بالأساليب التربوية للنهوض الحضاري.
المحور
الأول: مفهوم التربية الإنسانية وأساليبها
أولاً:
تعريف التربية الإنسانية
تعود الباحثة إلى الجذر اللغوي لكلمتي
«التربية» و«الإنسان»، لتخلص إلى أن التربية الإنسانية تعني:
تنشئة الإنسان وتنمية خصاله الأخلاقية
والوعي لديه، عبر تنمية الجوانب العقلية والنفسية والأخلاقية، بما يقوده إلى مرحلة
النضج والكمال الإنساني.
وفي الاصطلاح، تستعرض عدداً من
تعريفات التربويين، ثم تستقر على أن التربية الإنسانية هي:
- عملية اجتماعية – أخلاقية شاملة،
- تسعى إلى بناء شخصية الفرد بما
يمكّنه من العيش في مجتمع متعاون،
- وتحقيق التوازن بين حاجاته
المادية والمعنوية للوصول إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
ثانياً:
أساليب التربية الإنسانية في المنهج الإسلامي
تُبرز الباحثة أن المنهج التربوي في
الإسلام شامل وحيوي، لا يقف عند حدود التلقين، بل يعتمد على التطبيق والعمل
وربط السلوك بمنظومة الثواب والعقاب. ومن أبرز أساليبه:
- الأسلوب العقلي (العقلائي):
- التأكيد على دور العقل في تهذيب
السلوك والتفكير السليم.
- توظيف آيات التفكر والتدبر في
القرآن الكريم، والدعوة إلى الاستدلال والنظر في الكون والحياة لاكتشاف
الحقائق.
- الأسلوب العقدي والوجداني:
- غرس الإيمان بالله ومحبة الخالق
في القلب،
- ربط العمل بالمسؤولية الأخروية،
- تعزيز الوازع الروحي بوصفه
حارساً للسلوك الإنساني.
- التوجيه الأخلاقي والاجتماعي:
- ترسيخ قيم الصدق، والإحسان،
والصفح، والعدل،
- تنظيم علاقة الإنسان بربه
وبالناس من خلال منظومة أخلاقية تُترجم إلى سلوك يومي.
- الحماية النفسية والجسدية وترسيخ
المسؤولية الاجتماعية:
- العناية بالاستقرار النفسي
وطمأنينة القلب عبر ذكر الله،
- الاهتمام بالصحة الجسدية،
- والتأكيد على أن كل إنسان «راعٍ
ومسؤول عن رعيته» في دائرة الأسرة والمجتمع.
ثالثاً:
أساليب التربية الإنسانية في الفكر الحداثي
في المقابل، تستعرض الباحثة أهم
الاتجاهات الحديثة في التربية الإنسانية، مبينة جذورها الفلسفية الغربية، ومن
بينها:
- التربية الطبيعية عند جان جاك روسو، حيث يُعَدّ
الطفل خيّراً بطبعه والطبيعة هي المربي الأول.
- التربية الشاملة عند بستالوتزي، التي تجمع بين
العقل والحدس والتربية الصحية والجسدية.
- التعليم الذاتي وفلسفة مونتسوري في جعل المتعلم
مركز العملية التعليمية.
- التربية بالعناية التي تركز على الرعاية
والعلاقات الإنسانية كأساس للنمو المعرفي.
- التربية البنائية عند جان بياجيه، التي ترى أن
المتعلم يبني معارفه بنفسه عبر الخبرة والتفاعل مع البيئة.
وتخلص الباحثة إلى أن هذه الأساليب
رغم حداثتها تمتد جذورها – في كثير من جوانبها – إلى تراث الفكر الإسلامي الذي
سبقها في الاهتمام بالإنسان ككلّ متكامل.
المحور
الثاني: بين أصالة المنهج الإسلامي وتداعيات الحداثة
تستعرض الباحثة في هذا المحور أوجه
الشبه والاختلاف بين المنهجين:
أوجه
التشابه
- كلا المنهجين يلتقيان في جعل الإنسان
محور العملية التربوية.
- التركيز على تنمية القيم
الأخلاقية كالعدل والتسامح واحترام الكرامة الإنسانية.
- اعتبار التربية عملية شمولية
تشمل العقل والروح والأخلاق، ولا تقتصر على المعرفة وحدها.
- التأكيد على المسؤولية
الاجتماعية للفرد، ودور التربية في إعداد الإنسان لحمل هذه المسؤولية.
أوجه
الاختلاف
وتقدّم الباحثة مقارنة دقيقة – في
جدول تحليلي – بين المنهجين، أبرزها:
- مصدرية التربية:
- في الإسلام: مصدرها إلهي
ثابت (القرآن والسنة)، وقيم لا تقبل التبديل.
- في الحداثة: مصدرها وضعـي
بشري، وقيم قابلة للتغيير تبعاً للزمان والمكان.
- الغاية التربوية:
- في الإسلام: تحقيق العبودية
لله وبناء إنسان متوازن في الدنيا والآخرة.
- في الحداثة: إعداد إنسان حر
قادر على إدارة حياته الدنيوية بالدرجة الأولى.
- الحرية:
- في الإسلام: حرية منضبطة بضوابط
شرعية وأخلاقية.
- في الحداثة: حرية شبه مطلقة ما
دامت لا تتعارض مع حرية الآخرين.
- بناء القيم:
- في الإسلام: عبر القدوة
والموعظة والتوجيه الديني.
- في الحداثة: عبر التجربة والوعي
الفردي دون التزام ديني بالضرورة.
- التوازن بين العقل والعاطفة:
- في الإسلام: توازن واعٍ بين
العقل والعاطفة على أساس إيماني.
- في الحداثة: الاهتمام بالمعرفي
والعاطفي، لكن من دون مرجعية روحية ضابطة.
هذه الفروق تجعل – بحسب الباحثة – المنهج الإسلامي أكثر قدرة على تقديم
نموذج تربوي إنساني متوازن وثابت في جوهره، مع قابلية للتكيّف مع متغيرات الزمن.
المحور
الثالث: الإمام علي (عليه السلام) ومنهج التربية الإنسانية الحضارية
تخصص الباحثة المحور الثالث لبيان دور
الإمام علي (عليه السلام) في إثراء المجتمع بالأساليب التربوية
التي تقود إلى نهوض حضاري حقيقي، من خلال مجموعة محاور:
1.
التربية
المعرفية والعقلانية
يؤكد الإمام علي (عليه السلام) – كما
توضح الدراسة – على أن العقل هو رأس الغنى، وأن هناك «عقل الطبع وعقل
التجربة»، وكلاهما طريق للمنفعة، داعياً إلى توظيف التجربة والخبرة في تربية
الإنسان وصقل قدرته على التمييز بين الرشد والغي.
وتستشهد الباحثة بنصوصٍ تحفّز على طلب
العلم، وتعدّ الجهل أشد الفقر، في إشارة إلى أن النهضة الحضارية تبدأ من بناء
عقل الإنسان قبل أي شيء آخر.
2.
تربية
الضمير وتنمية الشعور بالمسؤولية
تولي الدراسة اهتماماً خاصاً لمفهوم محاسبة
النفس في فكر الإمام علي (ع)، بوصفه أساساً لتنقية الضمير الإنساني، مستشهدة
بقوله:
«مَن حاسَبَ نفسَهُ رَبِحَ، ومَن
غَفَلَ عنها خَسِرَ…»
وتبيّن كيف دعا الإمام إلى قمع
أهواء النفس وتوجيهها لطاعة الله، وربط ذلك باستشعار الرقابة الإلهية
والمسؤولية عن العباد والبلاد، حتى عن «البقاع والبهائم»، كما في وصاياه لولاته.
3.
التربية
على العدالة والتعايش السلمي
ترى الباحثة أن من ركائز التربية
الإنسانية عند الإمام علي (عليه السلام)
العدل
والتعايش السلمي،
مستشهدة بقوله:
«العَدلُ يضعُ الأمورَ مواضعَها…»
وقوله في
رسالته إلى مالك الأشتر:
«فإنهم
صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين، وإمّا نظيرٌ لك في الخَلق».
هذه القاعدة الذهبية – كما تصفها –
تجعل الإنسانية المشتركة أساساً للعلاقة بين الحاكم والرعية، وبين أفراد
المجتمع كافة، وتضع إطاراً تربوياً للتسامح وقبول الآخر ونبذ التطرف.
4.
حفظ
الكرامة الإنسانية
يُبرز البحث تركيز الإمام علي (عليه
السلام) على تحرير الإنسان من الذل والتبعية، في قوله المشهور:
«لا تَكُن عبدَ غيرِك وقد جعلَكَ اللهُ
حُرّاً».
وتشير الباحثة إلى عنايته بالطبقات
الفقيرة والمستضعفة، واعتباره صيانة حقوقهم وحاجاتهم جزءاً من تكريم الإنسان
والحفاظ على ماء وجهه، مما يجعل العدالة الاجتماعية أحد أعمدة التربية
الإنسانية في فكره.
5.
مبدأ
التدرّج في التربية
تتوقف الدراسة عند رؤية الإمام لمرحلة
الطفولة والشباب، واقتباسه تشبيه قلب الحدث بالأرض الخالية التي تقبل ما يلقى
فيها، مؤكدة أن التربية المبكرة وغرس القيم في الصغر شرط لبناء إنسان
متوازن في كبِره.
نتائج
وتوصيات: نحو نموذج تربوي إنساني متوازن
في خاتمة البحث، تخلص م.د. دنيا
سلمان محسن إلى جملة من النتائج، من أبرزها:
- أن التربية الإنسانية عملية
شاملة تستهدف الارتقاء بالإنسان عقلياً وروحياً وأخلاقياً، وتهدف إلى
تحقيق الكمال الإنساني وخدمة التطور الحضاري للمجتمع.
- أن المنهج الإسلامي يمتاز
بمصدرية ثابتة وأسلوب شمولي يجمع بين العقل والإيمان والأخلاق، ويقدّم حلولاً
لما تعانيه النظريات الحديثة من قصور روحي وقيمي.
- أن كثيراً من المناهج التربوية
الحديثة استفادت – بوعي أو من دون وعي – من الأسس التي أرساها الفكر
الإسلامي؛ غير أن الاختلاف في المرجعية والغاية يجعل نتائجها مختلفة على
مستوى تشكيل الشخصية الإنسانية.
- أن فكر الإمام علي (عليه
السلام) يشكّل نموذجاً تربوياً متكاملاً، يربط بين المعرفة
العقلية، وتنقية الضمير، وحفظ الكرامة، وتحقيق العدالة، والتدرّج في التربية؛
وهو ما يمكن أن يكون أساساً لمشروع تربوي إنساني معاصر.
وتدعو الباحثة في ضوء ذلك إلى:
- استلهام الأسس التربوية في فكر
الإمام علي (ع) في بناء المناهج والسياسات التعليمية المعاصرة.
- إعادة قراءة التربية الإنسانية
من منظور إسلامي أصيل، يوازن بين الثوابت الدينية ومتطلبات الحداثة.
- توظيف هذا التراث في إعداد إنسان
متوازن فكرياً وسلوكياً ووجدانياً، قادر على التفاعل مع التحديات
المعاصرة وقيادة المجتمع نحو التطور والتحضّر.
