في إطار فعاليات المؤتمر العلمي الرابع لإحياء تراث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي أقامه مركز المرايا للدراسات والإعلام في النجف الأشرف، برعاية كريمة من العتبة العباسية المقدسة، وبالتعاون مع جمعية العميد العلمية، وجامعة الكوفة، ومسجد الكوفة المعظّم، واتحاد الأدباء والكتاب، قدّمت الباحثة م.د. إلهام حمد عيسى من جامعة الكوفة / مركز دراسات الكوفة بحثًا علميًا موسومًا:
«ثقافة
الاحتواء في فكر الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) – دراسة تحليلية».
هذا البحث سعى إلى قراءة واحدة من أهم القيم التي تميّز بها
فكر الإمام علي (عليه السلام)، وهي ثقافة الاحتواء بوصفها منهجًا أخلاقيًا
وقياديًا، يقوم على الرحمة، والتسامح، والتعايش السلمي، والعدل، واحترام التنوع،
وتحويل هذه القيمة من مجرد «مفهوم» إلى منهج عملي في إدارة المجتمع والدولة
والعلاقات الإنسانية.
ثقافة الاحتواء… من المفهوم اللغوي
إلى الرؤية الإسلامية
تبدأ الباحثة بتأصيل مفهوم الثقافة والاحتواء في
اللغة والاصطلاح، موضحة أن الثقافة – في جذورها اللغوية العربية (ثقف) – ارتبطت
بالحذق وسرعة الفهم وتقويم المعوج، قبل أن تستقر في الاستعمال الحديث على الجانب
المعرفي والسلوكي معًا، بوصفها الإطار الذي تنمو فيه أنشطة الإنسان الفكرية
والروحية والعلمية والعادات والقيم.
وتشير إلى أن الفكر الغربي كثيرًا ما قدّم الثقافة بوصفها
سعيًا للكمال الإنساني بالاستفادة من منجزات الفكر البشري، مع اعتبار الدين عنصرًا
مكمّلًا، بينما تؤكد أن الثقافة الإسلامية تجعل من الدين أساسًا لأي
بناء ثقافي، باعتباره المنظومة المرجعية التي تصوغ العقل والهوية والسلوك.
أمّا الاحتواء في اللغة، فترجعه الباحثة إلى معاني
الجمع والضم والسيطرة والاستيعاب والاحتضان، ثم تنتقل لتعريفه اصطلاحًا بأنه:
«القدرة
على استيعاب وامتصاص المواقف أو الأفكار أو الأشخاص، بهدف تهدئة النزاعات وتجنب
التصعيد، من خلال الدعم والتفهّم والمرونة بدل المواجهة والعنف».
وتبيّن أن هذا المفهوم في الفكر الإسلامي يتجاوز البعد النفعي
إلى بعدٍ إنساني وأخلاقي، حيث يُوظّف الاحتواء لخدمة الآخرين وحماية
المجتمع، لا لاستغلالهم أو تمرير المصالح الضيقة.
القرآن الكريم… تأسيس احتواءٍ يقوم
على الرحمة والحوار والمشاورة
في المحور الثاني، تتتبع الباحثة جذور ثقافة الاحتواء في القرآن
الكريم، رغم عدم ورود لفظ «الاحتواء» نصًّا، مؤكدة أن روحه حاضرة بقوة في أساليب
الخطاب القرآني، خاصة في آيات:
- الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والحوار:
﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، بوصف الحوار أداة للاحتواء الفكري وكسر حواجز العناد والخصومة. - الرحمة واللين في قيادة الناس:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾، فتربط الآية بين لين الخطاب ونجاح القيادة في الحفاظ على المجتمع متماسكًا. - العفو والصفح والصبر:
﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾، و﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا﴾، بما يجعل العفو وسيلة للاحتواء ومنع الانفجار الاجتماعي. - المشاورة واعطاء الآخرين قيمة في القرار:
﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾، لتبيّن الباحثة أن الشورى ليست آلية إدارية فحسب، بل أسلوب احتواء يضم الآخرين إلى دائرة الفعل والتأثير، ويمنحهم الشعور بالانتماء والشراكة.
وتخلص الدراسة إلى أن القرآن أسّس لنموذج قيادي يحتوي الناس
بالرحمة والحوار والمشاركة، بدل القهر والإقصاء.
السيرة النبوية… نموذج عملي لاحتواء الخصوم
قبل الأتباع
في المحور الثالث، تنتقل الباحثة إلى السيرة النبوية بوصفها
التطبيق العملي لهذا المنهج القرآني؛ فالنبي محمد (صلى الله عليه وآله) جاء ليتمم
مكارم الأخلاق، وجعل من الاحتواء أسلوبًا رئيسًا في دعوته وبناء دولته.
وتستعرض الدراسة مجموعة من النماذج، منها:
- صحيفة المدينة: بوصفها وثيقة تأسيسية للتعايش
السلمي بين المسلمين واليهود وغيرهم داخل مجتمع واحد، تضمن العدل والحماية
للجميع، وتجعل التحالف ذا طبيعة دفاعية لا عدوانية.
- قواعده في الحرب: التي منعت قتل النساء والأطفال
والشيوخ، وتحريم الغدر والتمثيل والتعدي على غير المقاتلين، ما جعل من
أخلاقيات الحرب صورة من صور الاحتواء الإنساني حتى في أوقات النزاع.
- تعامل النبي (ص) مع نصارى نجران: عبر أسلوب الحوار والمباهلة، وما
ترتب على ذلك من بقاء علاقة سلمية مع من لم يسلم منهم، في جو يسوده الاعتراف
المتبادل والعيش المشترك.
- أحداث بني جذيمة، وأهل اليمن: حيث يظهر دور الإمام علي (عليه
السلام) إلى جانب النبي (ص) في إصلاح الأخطاء، وردّ المظالم، واحتواء التوتر
بالعدل والإنصاف، ما يرسّخ قيمة احتواء الخصوم بدل تصفية الحساب معهم.
وترى الباحثة أن هذه النماذج تؤكد أن الإسلام الحركي الأصيل
يعتمد ثقافة الاحتواء مسارًا للإصلاح وبناء الدولة، لا منطق الإلغاء والتهميش.
الإمام علي (عليه السلام)… احتواء
بالعدل والحرية والمساواة
المحور الرابع من البحث خُصّص لـ تجليات ثقافة الاحتواء في
فكر الإمام علي (عليه السلام) وسيرته العملية، حيث تبرز الباحثة الإمام
نموذجًا قياديًا يمزج بين الحزم والرحمة، والمبدأ والمرونة.
وتقف الدراسة عند جملة من المحطات والمواقف، من أبرزها:
1. الإنسان
صنفان… أخٌ في الدين أو نظيرٌ في الخلق
في عبارته
الشهيرة في عهده لمالك الأشتر:
«الناس
صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق»، يؤسّس الإمام لرؤية حقوقية وإنسانية تعتبر
جميع البشر داخل دائرة الاحترام والكرامة، بصرف النظر عن دينهم وانتمائهم.
2. حماية
حرية الرأي – حتى للخصوم
تستعرض
الباحثة موقفه من الخوارج؛ إذ لم يمنعهم من حضور المسجد أو أخذ نصيبهم من
بيت المال ما داموا لا يحملون السلاح، وكان يقول: «لَكم عندنا ثلاث: لا نمنعكم مساجد
الله… ولا نمنعكم الفيء… ولا نقاتلكم حتى تبدأونا»، في نموذج رفيع لاحتواء المعارضة وعدم
تحويلها إلى مبرر للقمع.
3. النزول
إلى القضاء كأي مواطن… درع الإمام واليهودي
تسلّط
الدراسة الضوء على حادثة مثوله أمام القاضي شريح في نزاعه مع رجل يهودي حول درع،
وقبول الإمام بحكم القضاء حين عجز عن تقديم بيّنة، ثم إسلام الرجل بعد أن رأى هذا
المستوى من العدالة. هذا الموقف يجسد احتواءً من نوع آخر: احتواءً بالإقناع والعدل لا بالقوة.
4. رفض
الإكراه في العمل والرزق
تؤكد
الباحثة أن الإمام علي (ع) رفض مبدأ العمل بالسخرة، وقال: «لست أرى أن أُجبر أحدًا على عملٍ
يكرهه»، كما في قصة حفر
النهر لأهل قرية طلبوا المساعدة، فترك العمل لمن يختار بإرادته على أن يكون النهر
لمن شارك فيه. هذه الرؤية تجعل من الاحتواء الاقتصادي والاجتماعي أساسًا لكرامة
الإنسان.
5. المساواة
في العطاء ومحاربة الامتيازات
حين اعترض
بعض الصحابة على مساواته بين العرب والموالي في العطاء، رفض أن يجعل من التمييز
وسيلة لاستمالة طرف على حساب آخر، وقال: إن طلب النصر بالظلم أمر مرفوض، حتى لو
كان الثمن خسارة سياسية. هذه التسوية العادلة تمثل شكلًا متقدمًا من الاحتواء
الاجتماعي على قاعدة العدل لا المحاباة.
6. الاحتواء
عبر العدل في النزاعات الأسرية والاجتماعية
يورد البحث
حوادث فقهية وقضائية عالج فيها الإمام قضايا زواج ومواريث ونزاعاتٍ شخصية، أعلَى
فيها كفة الشريعة والإنصاف على هوى الأشخاص، ما سمح باحتواء الأزمات ومنعها من
التحوّل إلى صراعات ممتدة.
وتخلص الباحثة إلى أن ثقافة الاحتواء في فكر الإمام علي (ع) ليست مجرد تساهل أو ضعف، بل هي قوة
أخلاقية وقانونية، توازن بين حفظ الحق ومدّ الجسور مع الآخر، وتمنح المجتمع
قدرة أعلى على امتصاص الأزمات.
نتائج البحث… الاحتواء قيمة قيادية
وحاجة معاصرة
في الخلاصة، تؤكد الدراسة جملة من النتائج، من بينها:
- أن ثقافة الاحتواء عند أهل البيت (عليهم السلام)، وفي
طليعتهم الإمام علي (ع)، جزء من رؤيتهم الشاملة للحياة، تقوم على الرحمة والعدل
واحترام التنوع.
- أن الإمام علي (عليه السلام) قدّم نموذجًا قياديًا يمزج
بين الحزم والرحمة، ويجعل من السلطة مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون
امتيازًا تشريفيًا.
- أن الاحتواء في فكره يعني:
- قبول التنوع المذهبي والفكري،
- احترام حقوق المعارض قبل المؤيد،
- حماية الفقراء والضعفاء،
- محاربة الظلم حتى لو ترتب على ذلك كلفة شخصية على القائد
نفسه.
- أن العالم المعاصر، بما يشهده من نزاعات وصراعات ثقافية
ودينية، يمكن أن يستلهم من فكر الإمام (ع) حلولًا عملية لتعزيز التعايش
والتوازن الاجتماعي.
توصيات… من قاعة البحث إلى واقع
المجتمع
وتقترح الباحثة عددًا من التوصيات، أبرزها:
- إدماج مبادئ الاحتواء في فكر الإمام علي (ع) ضمن المناهج الدراسية والبرامج
التربوية، بأسلوب قصصي جاذب يناسب الأجيال الناشئة.
- مواجهة لغة العشيرة القائمة على العنف والثأر بثقافة
أهل البيت (عليهم السلام)، بما تعنيه من عدل ومساواة ونبذ للكراهية.
- فتح قنوات حوار بين مختلف المكوّنات الدينية والثقافية في
المجتمع، استلهامًا لمنهج الإمام في قبول التنوع.
- تشجيع النخب الدينية والثقافية على تفعيل خطاب
الاحتواء بدل خطاب الإقصاء، وربط ذلك بسيرة النبي (ص) والإمام علي (ع).
يعكس هذا البحث التوجّه الاستراتيجي لـ مركز المرايا
للدراسات والإعلام وشركائه في هذا المؤتمر، في إحياء تراث أمير المؤمنين
(عليه السلام) بوصفه مشروعًا حيًّا لبناء الإنسان والمجتمع، لا مجرد مادة
تاريخية.
فمن خلال تسليط الضوء على ثقافة الاحتواء في فكر الإمام علي
(ع)، يقدّم البحث
نموذجًا معرفيًا وأخلاقيًا يمكن أن يسهم في معالجة أزماتنا الراهنة، ويضع أمام
صناع القرار والمربين والباحثين منهجًا عمليًا لبناء مجتمع يسوده الأمن
والسلام، ويُحترم فيه الإنسان بصفته «أخًا في الدين أو نظيرًا في الخلق».

