المنهج التربوي والأخلاقي في فكر أمير المؤمنين (ع)… بحثٌ يضيء رؤية الإمام لبناء الإنسان والمجتمع

 




شارك الدكتور  محمد خضير الجيلاوي  في أعمال المؤتمر العلمي الرابع لإحياء تراث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي أقامه مركز المرايا للدراسات والإعلام في النجف الأشرف برعاية كريمة من العتبة العباسية المقدسة، وبالتعاون مع جمعية العميد العلمية، وجامعة الكوفة، ومسجد الكوفة المعظم، واتحاد الأدباء والكتاب، ببحثه الموسوم:
«
المنهج التربوي والأخلاقي في فكر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) – دراسة تحليلية».

هذا البحث سعى إلى الكشف عن ملامح المنهج التربوي والأخلاقي في فكر الإمام علي (ع)، وكيف أسّس (عليه السلام) رؤية متكاملة لبناء الإنسان علميًا وروحيًا وأخلاقيًا، بما يجعل تراثه مصدرًا حيًا لمعالجة أزمات الإنسان والمجتمع المعاصر.


تربية وأخلاق… مدخلٌ لبناء الإنسان المتوازن

في مقدمة البحث، يؤكد الباحث أن التربية والأخلاق هما الركيزتان الأساس في تشكيل شخصية الإنسان، وأن فكر أمير المؤمنين (عليه السلام) يجمع بين المعرفة والسلوك القويم؛ فلا علم من دون أخلاق، ولا أخلاق راسخة من دون وعيٍ وفهمٍ وعقل. ويربط البحث بين أقوال الإمام (عليه السلام) ومنظورات التربية الحديثة، مبيّنًا أن مدرسة الإمام علي (ع) قدّمت مبكرًا ما تسعى إليه مناهج التربية المعاصرة من توازن بين المعرفة والسلوك.

ويشير الباحث إلى أن اختيار الموضوع جاء من إدراكٍ عميقٍ لحاجة الأجيال اليوم إلى قدوة فكرية وأخلاقية تستند إلى مبادئ الإسلام وقيمه الإنسانية، وأن سيرة الإمام علي (عليه السلام) وأقواله تشكل كنزًا تربويًا يمكن أن يُسهم في إعداد فردٍ واعٍ ومسؤول، قادر على الإسهام الإيجابي في محيطه الاجتماعي. كما يبيّن أهمية توظيف هذا الموروث في تعزيز قيم التسامح، والعدل، والاستقامة في واقعٍ يعاني من تحديات فكرية وأخلاقية متزايدة.


المبحث الأول: المنهج التربوي في فكر الإمام علي (عليه السلام)

توقف البحث أولًا عند المنهج التربوي في فكر أمير المؤمنين (ع)، من خلال مجموعة منتقاة من كلماته (عليه السلام) التي ترسم ملامح البناء التربوي السليم، ومن أبرز محاوره:

  • العلم أساس الحِلم والحكمة: يستعرض الباحث قول الإمام (ع):
    «
    عليك بالحِلم فإنه ثمرة العلم»، مبينًا أن الحِلم وضبط النفس ليسا حالة عفوية، بل ثمرة وعيٍ ومعرفة؛ فالتربية الحقيقية تُخرِج إنسانًا متزنًا قادرًا على التحكم بانفعالاته، لا يندفع مع الغضب ولا يستسلم لردود الأفعال المتسرعة.
  • الحرية والاستقلالية الفكرية: في قوله (ع): «ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرًّا»، يوضح البحث أن الإمام علي (ع) يؤسس لتربية تحرر الإنسان من العبوديات الفكرية والاجتماعية، وتربي فيه الاستقلال في الرأي والقدرة على اتخاذ القرار المسؤول بعيدًا عن التبعية العمياء.
  • التعلم المبكر وبناء الشخصية القيادية: من خلال قوله (ع):
    «
    تعلّموا العلم صغارًا تسودوا به كبارًا»، يؤكد الإمام أن السنوات الأولى من عمر الإنسان هي مرحلة التأسيس العميق للعقل والشخصية، وأن طلب العلم في الصغر يمهّد لقيادةٍ راشدة في الكبر، وهو ما تذهب إليه اليوم نظريات التربية الحديثة.
  • التحذير من الطمع وآثاره على العقل: في قوله (ع):
    «
    أكثر مصارع العقول تحت بروق الطمع»، يشرح الباحث كيف أن الطمع يُضعف بصيرة الإنسان ويشوّش حكمه على الأشياء، وأن التربية السليمة تغرس في الفرد القناعة وضبط الرغبات حتى لا يقع أسيرًا لإغراءات تهدم عقله وقراراته.
  • التواضع وضبط النفس أساس الأدب الحقيقي: يستند البحث إلى قوله (ع):
    «
    أفضل الأدب أن يقف الإنسان عند حدّه ولا يتعدّى قدره وطوره»، ليبين أن الإمام (ع) يربّي الإنسان على معرفة قدره واحترام حدوده، وأن التواضع ليس ضعفًا بل وعيٌ بالذات يحمي صاحبه من الغرور والتهور.
  • الإحسان سبيل القيادة بالمحبة: من خلال قوله (ع): «أحسن إلى من شئت تكن أميره»، يخلص البحث إلى أن الإمام يؤسس لمفهوم القيادة الأخلاقية القائمة على الإحسان لا على القهر، حيث يصبح الإنسان مؤثرًا ومسموع الكلمة بفضل أخلاقه وعطائه لا بسلطته.
  • إصلاح الباطن طريق لصلاح الظاهر: يبرز البحث قول الإمام (ع):
    «
    من أصلح سريرته أصلح الله علانيته»، ليوضح أن المشروع التربوي في فكر الإمام علي (ع) يبدأ من القلب والنية والضمير، وأن صلاح الظاهر انعكاس لصلاح الباطن، لا مجرد مظهر اجتماعي.

بهذه المحاور يبيّن المبحث الأول أن الإمام علي (عليه السلام) قدم منظومة تربوية متكاملة تجعل من العلم، والاستقلال الفكري، وضبط النفس، والإحسان، والتواضع، ركائز لصناعة الإنسان الصالح.


المبحث الثاني: المنهج الأخلاقي في مدرسة الإمام علي (عليه السلام)

في المبحث الثاني، ينتقل البحث إلى المنهج الأخلاقي في فكر أمير المؤمنين (عليه السلام)، مبيّنًا أن الأخلاق هي روح التربية وجوهرها، وأن أقوال الإمام تشكّل ميثاقًا أخلاقيًا لبناء الفرد والمجتمع.

ومن أبرز المحاور التي تناولها:

  • طهارة الأصل وحسن الخلق: في قوله (ع):
    «
    أطهر الناس أعراقًا أحسنهم أخلاقًا»، يوضح الباحث أن الأخلاق الفاضلة تعكس أصالة النفس وصفاء الجذر التربوي الذي نشأ عليه الإنسان، وأن صلاح الفرد مرآة لتربيةٍ سليمةٍ في البيت والبيئة.
  • التسامح والعطاء والعفو: عبر قوله (ع):
    «
    إنّ من مكارم الأخلاق أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمّن ظلمك»، يرسم الإمام خارطة طريق لمجتمعٍ قائم على الصفح، وإصلاح العلاقات، وتجاوز الأحقاد، وهو ما يحتاجه واقعنا المعاصر بشدة.
  • حسن الخلق مفتاح القلوب: في قوله (ع):
    «
    من حسن خلقه كثر محبوه وأنست به النفوس»، يبيّن البحث أن الأخلاق ليست ترفًا، بل رأسمال اجتماعي يصنع المحبة والثقة ويمنح الإنسان مكانةً خاصة في محيطه.
  • العفو عند المقدرة قمة القوة الأخلاقية: يستعرض البحث حكمة الإمام (ع):
    «
    إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرًا للقدرة عليه»، مؤكدًا أن الإمام يعيد تعريف القوة لتكون في التحكم بالنفس والتسامح لا في الانتقام وردّ الإساءة.
  • التنافس في الفضائل: في قوله (ع):
    «
    تنافسوا في الأخلاق الرغيبة والأحلام العظيمة… يعظم لكم الجزاء»، يدعو الإمام إلى سباقٍ من نوع آخر؛ سباق في مكارم الأخلاق، والحِلم، وتحمل المسؤوليات الكبرى التي تنهض بالمجتمع وتضمن الجزاء الجزيل في الدنيا والآخرة.
  • العلم بوابة التمييز الأخلاقي: حين يقول (ع):
    «
    رأس العلم التمييز بين الأخلاق، وإظهار محمودها وقمع مذمومها»، يربط الإمام بين العلم والسلوك، ويرى أن العلم الحقيقي هو الذي يصوغ أخلاق الإنسان ويعينه على تمييز الفضيلة من الرذيلة.
  • الرفق أساس العلاقات الإنسانية: في قوله (ع):
    «
    العسر يشين الأخلاق ويوحش الرفاق»، يوضح البحث أن الغلظة والتشدد تفسدان الأخلاق وتفترقان عن روح الدين، بينما الرفق واللين يجمعان القلوب ويشيّدان مجتمعًا إنسانيًا دافئًا.
  • قلة الكلام علامة كمال العقل: من خلال قوله (ع):
    «
    إذا تمّ العقل نقص الكلام»، يبيّن الباحث أن الإمام يدعو إلى الكلام المسؤول، وأن الحكيم من يزن كلماته، فلا يكثر إلا بما ينفع.
  • النصيحة الصادقة معيار المحبة: في قوله (ع):
    «
    من أحبك نهاك، ومن أبغضك أغراك»، يؤسس الإمام لثقافةٍ أخلاقية ترى في النقد والنصيحة الصادقة علامة حب، وفي الإغراء بالباطل دليل بغضٍ وخداع.
  • التحذير من الخرق والطيش: في قوله (ع):
    «
    إياك والخرق فإنه شين الأخلاق»، يشدّد الإمام على أن التسرع والتهور يفسدان أخلاق الإنسان وقراراته، وأن الحكمة والتروي هما أساس السلوك القويم.

المبحث الثالث: تكامل المنهج التربوي والأخلاقي وتطبيقاته العملية

أما المبحث الثالث، فيسلط الضوء على تكامل المنهجين التربوي والأخلاقي في فكر الإمام علي (عليه السلام)، مؤكدًا أن التربية التي لا تنتهي إلى أخلاق، والمعرفة التي لا تُترجم إلى سلوك، تبقى ناقصة الأثر.

يعرض الباحث نماذج من أقوال الإمام (عليه السلام) التي تجسد هذا التكامل، من بينها:

  • «أفضل العقل معرفة المرء بنفسه»، حيث يجعل الإمام معرفة النفس أساسًا للعقل والتربية، ومفتاحًا لتقويم السلوك.
  • «الخُلُق المحمود من ثمار العقل»، ليؤكد أن الأخلاق الحسنة ليست منفصلة عن التفكير السليم، بل هي ثمرة عقلٍ راجح.
  • «أقبح الأخلاق الخيانة»، في إشارة إلى أن الخيانة تهدم الثقة وتزعزع البنية الأخلاقية للمجتمع.
  • «عدل السلطان خير من خِصب الزمان»، حيث يضع الإمام العدل فوق الوفرة المادية، باعتباره شرطًا للاستقرار والطمأنينة.
  • «ما جاع فقير إلا بما مُتِّع به غني»، ليربط بين الفقر وسوء توزيع الثروة وغياب العدالة الاقتصادية.
  • «العقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة»، في رؤية تربط بين الفطرة والتجربة كطريقين متكاملين للحكمة.
  • «قيمة كل امرئ ما يحسنه»، خاتمًا بمنظور عملي يجعل الإتقان والمعرفة النافعة معيارًا حقيقيًا لقيمة الإنسان ودوره في المجتمع.

يخلص المبحث إلى أن فكر الإمام علي (عليه السلام) يقدم مشروعًا متكاملاً لبناء الإنسان: عقلًا، وروحًا، وخلقًا، وعملًا، بحيث يتربى الفرد على العلم، ويتهذب على الأخلاق، ويُترجم ذلك إلى سلوكٍ عادلٍ ومُحسن في حياته العامة والخاصة.


نتائج وتوصيات… دعوة لإدماج فكر الإمام علي (ع) في المناهج التربوية

اختتم الباحث دراسته بجملة من النتائج، من أبرزها أن:

  • التربية في فكر الإمام علي (عليه السلام) تقوم على وحدة العلم والأخلاق.
  • التعليم المبكر، وضبط النفس، والاستقلالية الفكرية، والتواضع، والإحسان؛ عناصر أساسية لبناء شخصية متوازنة.
  • العدل، والتسامح، والرفق، والعفو، قيمٌ مركزية في مشروع الإمام الأخلاقي والاجتماعي.

كما قدّم البحث توصيات عملية، منها:

  • إدماج الفكر التربوي والأخلاقي للإمام علي (عليه السلام) في المناهج التعليمية والبرامج التربوية.
  • تكثيف الدراسات والندوات حول القيم الإسلامية في بناء الإنسان والمجتمع، وربطها بواقعنا المعاصر.
  • تعزيز مفاهيم العدل، والتسامح، والتواضع، والإحسان في التربية الأسرية والمدرسية.
  • توظيف هذا الفكر في برامج التنمية البشرية وصناعة القدوة الأخلاقية لدى الشباب.

انسجام البحث مع رسالة مركز المرايا وشركائه في إحياء التراث

بهذا البحث، يضيف الباحث محمد خضير لبنةً جديدة في مشروع إحياء تراث أمير المؤمنين (عليه السلام)، الذي يتبناه مركز المرايا للدراسات والإعلام وشركاؤه من المؤسسات العلمية والدينية والثقافية، وفي مقدمتهم العتبة العباسية المقدسة، وجمعية العميد العلمية، وجامعة الكوفة، ومسجد الكوفة، واتحاد الأدباء والكتاب.

ويعكس هذا العمل العلمي الجاد التوجّه العام للمؤتمر نحو استثمار تراث الإمام علي (عليه السلام) في بناء الواقع التربوي والأخلاقي للمجتمع العراقي، وتقديم مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) نموذجًا حيًّا في صنع الإنسان الواعي، المتوازن، العادل، والمتخلق بقيم السماء.

أحدث أقدم