العلم بوصفه أساساً للتربية الأسرية الصالحة في منهج الإمام علي (عليه السلام)

 


نظّم مركز المرايا للدراسات والإعلام مؤخرًا في النجف الأشرف المؤتمرَ العلمي الرابع لإحياء تراث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، برعاية كريمة من العتبة العباسية المقدسة، و بالتعاون مع جمعية العميد العلمية والفكرية و مسجد الكوفة المعظم وجامعة الكوفة كلية الاداب و مركز دراسات الكوفة  واتحاد الادباء والكتاب في النجف الاشرف حيث شهدت جلساتُه العلمية مشاركةَ نخبة من الباحثين والأكاديميين من الجامعات العراقية  الحكومية والاهلية.

ومن بين البحوث التي استحوذت على اهتمام الباحثين والحضور، جاء بحث الأستاذ الدكتور حيدر عبد الحسين زوين من كلية الآداب – جامعة الكوفة، الموسوم:
«
أثر العلم في التربية الأسريّة الصالحة – منهج الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنموذجاً»، ضمن المحور الأوّل من محاور المؤتمر المعني بـ أساليب التربية وأسسها في منهج الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

 

العلم… نعمة إلهية وأساس للتكليف والتربية

ينطلق الباحث من فكرة محورية مفادها أن العلم نعمة إلهية كبرى ميّز الله بها الإنسان عن سائر المخلوقات، وجعلها أساسًا للتكليف الشرعي ومسؤولية الإنسان في هذه الحياة. فبالعلم – كما يوضح البحث – تُبنى العقول السليمة، ويُفرَّق بين الخطأ والصواب، وبين السلوك المنحرف والسلوك القويم، وبذلك يصبح العلم بوابةً لكل عملية تربوية أسرية ناجحة.

ويؤكّد البحث أن الإسلام المحمدي الأصيل وأحاديث أهل البيت (عليهم السلام) قد أولت أسلوب العلم مكانةً مركزية في بناء الأسرة المسلمة، باعتباره الأسلوب الأنجع لبناء الفرد الصالح، ومن ثمّ المجتمع المتماسك، وأن تقدّم الشعوب ونهضتها مرتبطان بمدى إدراكها لهذه الثيمة الكبرى وتفعيلها عمليًا في الواقع الأسري والاجتماعي.

 

المحور الأول: العلم في المنظور الإسلامي وأثره في الأسرة

في المبحث الأول، يتناول الباحث أثر أسلوب العلم في التربية الأسريّة الصالحة من المنظور الإسلامي، مستندًا إلى آيات قرآنية وأحاديث نبوية وروايات أهل البيت (عليهم السلام) تؤكد فضل العلم ورفعة العلماء، من قبيل قوله تعالى:
﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾، وما ورد من أحاديث تحث على طلب العلم وتصفه بالفريضة على كل مسلم ومسلمة.

ويركّز الباحث على أن تهذيب النفس وتنشئتها النشأة الصالحة لا يتحقق إلا بالعلم، لأنه السبيل إلى ترويض النفس على الأخلاق الفاضلة والابتعاد عن الرذائل، وهو الطريق الأضمن للوصول إلى السعادة الأبدية. كما يتوقف البحث عند آداب طالب العلم، من الإخلاص لله، والتوكل عليه، والابتعاد عن الذنوب، والتواضع، والتحلي بالصبر وتحمل مشقة التعلم، بوصفها مقومات أساسية لأي مشروع تربوي أسري ناجح.

كما يشير البحث إلى أن الإسلام ومنهج أهل البيت (عليهم السلام) ألزم المؤمنين بأن يكون العلم وسيلة للتقرب إلى الله، لا سلّمًا للجاه أو المنصب أو المال، وأن قيمة العلم الحقيقي تتجلى في أثره على سلوك الإنسان وأخلاقه وعلى دوره في خدمة الأسرة والمجتمع.

 

المحور الثاني: منهج الإمام علي (ع) في توظيف العلم داخل الأسرة

في المبحث الثاني، ينتقل الباحث إلى منهج الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنموذجاً، بوصفه منبعًا غنيًا بالحكم والأقوال التي تُبرز دور العلم في التربية الأسرية. ويذكّر بما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أنا مدينة العلم وعلي بابها»، باعتبار الإمام (ع) الامتداد العلمي والروحي للرسالة، ومعلّم الأمة وهادِيَها.

ويستعرض البحث جملة من المرتكزات التربوية في نهج الإمام علي (عليه السلام)، من أبرزها:

1.  البدء بالتربية العلمية منذ الصغر
يؤكد الإمام (ع): أن من لم يتعلم في الصغر لن يتقدم في الكبر، وأن العلم في الصغر كالنقش في الحجر، ما يضع الأسرة أمام مسؤولية مبكرة في غرس حب العلم والتعلّم في نفوس الأبناء، بوصفه حقًا شرعيًا لهم وواجبًا على الأبوين في آن واحد.

2.  تشجيع السؤال والحوار داخل الأسرة
يبرز البحث قول الإمام (عليه السلام): إن حسن السؤال نصف العلم، ليؤكد أن بيئة الأسرة يجب أن تكون فضاءً آمنًا لأسئلة الأبناء واستفساراتهم، وأن التربية الصحيحة لا تقوم على المنع والقمع، بل على الحوار، والرجوع إلى «أهل الذكر» في الدين والعلم والمعرفة.

3.  مجالسة العلماء واعتبار البيت نواة لمجتمع العلم
يشدّد الإمام علي (ع) على أهمية مجالسة العلماء والحكماء، لما لذلك من أثر في زيادة العلم، وتهذيب الأدب، وتزكية النفس، وهو ما يدعو الأسرة إلى تشجيع الأبناء على حضور مجالس العلم، والارتباط بالمؤسسات العلمية والدينية الرصينة.

4.  العلم خير من المال
في مقارنة لافتة، يبيّن الإمام (عليه السلام) أن العلم خير من المال؛ لأن العلم يحرس صاحبه، بينما يحتاج المال إلى من يحرسه، وأن المال يفنى ويزول، في حين يبقى أثر العلم ما بقي الدهر، وتظل ذكرى العلماء حاضرة في القلوب والضمائر.

5.  نشر العلم في محيط الأسرة والمجتمع
يرى الإمام (ع) أن من واجب من أوتي علمًا أن يعلّمه الآخرين، بدءًا من أهل بيته وأبنائه ومن حوله، حتى يتحوّل البيت المسلم إلى مركز إشعاع علمي وأخلاقي، تسري منه قيم المعرفة إلى الحي والمجتمع الأوسع.

6.  العلم سلاح يقطع العذر
يبيّن البحث أن العلم – في رؤية الإمام علي (ع) – يقطع عذر المتقاعسين، فلا حجة للجاهل في زمن انتشار العلم ووضوح الحجة؛ لأن أبواب المعرفة مفتوحة، ومسؤولية التعلّم تقع على عاتق كل فرد. وهذا البعد يعمّق الإحساس بالمسؤولية داخل الأسرة، فلا يُسمَح بتبرير الأخطاء بالجهل أو قلة المعرفة.

7.  الوصية بنقل العلم إلى الأبناء والأحفاد
ينقل البحث عن الإمام (عليه السلام) دعاءه بأن يجعل الله العلم والحكمة في عقبه وعقب عقبه، في إشارة واضحة إلى أهمية استمرارية السلسلة العلمية داخل العائلة، بحيث تصبح المعرفة تقليدًا عائليًا وميراثًا معنويًا ينتقل من جيل إلى جيل.

 

منهجية البحث ومصادره

اعتمد الباحث المنهج الوصفي التحليلي، مستندًا إلى طيف واسع من المصادر القرآنية والحديثية والتاريخية والعقائدية واللغوية، إلى جانب كتب التراث مثل نهج البلاغة وشروحاته، ومصادر الحديث والسير، ومراجع معاصرة في التربية الإسلامية. وقد مكّنه ذلك من تتبّع حضور مفهوم العلم في النصوص، وربطه بتفاصيل الحياة الأسرية وأساليب التنشئة السليمة داخل البيت المسلم.

 

نتائج وتوصيات: نحو إدماج «أسلوب العلم» في مناهج الأسرة والمؤسسات

اختتم البحث بجملة من النتائج والتوصيات، من أبرزها:

  • التأكيد على أن العلم أسلوب حيوي وفعّال في تحقيق الحياة الأسرية الصالحة، وليس مجرد ترف معرفي أو اختصاص نخبة من الناس.
  • أن منهج أهل البيت (عليهم السلام)، ولا سيما الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، زاخر بالأحاديث والحِكَم التي تجعل من العلم ركيزة أساسية في التربية الأخلاقية والعائلية.
  • الدعوة إلى إدراج موضوع العلم وأثره في الأسرة ضمن المناهج الدراسية في الجامعات والمعاهد والمدارس العراقية، مع التركيز على نصوص القرآن والسنّة وأقوال الأئمة (عليهم السلام) ذات الصلة.
  • اقتراح إعداد مناهج تربوية وأخلاقية تستثمر أقوال الرسول الأعظم وأهل بيته (عليهم السلام) في العلم، وتُترجمها إلى برامج عملية داخل الأسرة والمدرسة والمجتمع، بما يعزّز قيم التعاون والسعادة والوحدة المجتمعية.
  • التأكيد على أن التسامح، واحترام الآخر، وتنمية العقول، ونشر العلم هي صمام الأمان لبناء أسرة صالحة ومجتمع إنساني متكامل.

 

انسجام البحث مع رسالة مركز المرايا

يمثّل هذا البحث إضافة نوعية لمسار مركز المرايا للدراسات والإعلام في إحياء تراث أمير المؤمنين (عليه السلام)، من زاوية تربوية معاصرة تربط بين النصوص الدينية والواقع الأسري الراهن، وتقدّم نموذجًا عمليًا لكيفية توظيف التراث في معالجة تحديات الأسرة المسلمة اليوم.

وبمشاركة هذا البحث في جلسات المؤتمر العلمي الرابع، يواصل المركز ترسيخ دوره بوصفه منصة علمية تسعى إلى بناء جسور بين الجامعة والمجتمع، وإلى تقديم رؤى تربوية وفكرية مستمدة من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، قادرة على الإسهام في بناء الأسرة الصالحة والجيل الواعي في عراق اليوم.

 

أحدث أقدم